في خيمةٍ صغيرة بمنطقة مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، تجلس رانية محمد (35 عاماً) تحاول تهدئة أطفالها الأربعة الذين يبكون خوفاً من دويّ الانفجارات التي لا تتوقف. تُمسك بيدّ ابنتها الصغيرة، التي ترتجف كلما سمعت صوت طائرة مسيّرة إسرائيلية تُحلّق فوقهم.
"كل يوم هو كابوس جديد"، تقول رانية بينما تذرف الدموع. وتردف: "النزوح المتكرر والعيش في الخيم دمّرنا نفسيًا، أطفالي يحلمون بوجبةٍ شهية ويتمنون العودة إلى مدارسهم وألعابهم، لكنّنا الآن نعيش في رعبٍ دائم".
رانية واحدة من آلاف الأمهات اللواتي يواجهن هذا الواقع القاسي يوميًا، في وقتٍ تشير فيه التقدّيرات إلى أنّ 1.7 مليون طفل في قطاع غزة يعيشون ظروفًا مشابهة ويحتاجون إلى دعم نفسي عاجل. فالحرب الإسرائيلية التي دخلت الشهر الواحد والعشرين لم تترك فقط دمارًا مادياً في قطاع غزة، بل خلّفت جراحًا نفسية عميقة لدّى الجيل الصغير.
بحسب منظمات أممية، فإنّ 90% من الأطفال في غزة أظهروا مؤشرات تدّل على القلق أو الحزن أو الاكتئاب، بما يُقدّر بنحو 1530 ألف طفل، وذلك نتيجة مشاهد القصف والنزوح وفقدان الأمان. ويعيش كثير منهم بعيدًا عن منازلهم، حيث تشير الأرقام إلى أنّ نحو 625 ألف طفل نزحوا من مناطقهم، بعضهم لأكثر من مرة، وهم الآن مشتتون في خيام أو مراكز إيواء تفتقر إلى الحدّ الأدنى من مُقومات الطفولة والإنسانية.
كما حُرم ما يزيد عن 625 ألف طالب وطالبة من التعليم بسبب تضرر وتدمير المدارس أو استخدامها كملاجئ؛ ما يفاقم الشعور بالعزلة والضياع لدى الأطفال، ويضيف عبئًا نفسيًا على عائلات تحاول البقاء وسط رعب وفوضى الحرب.
يرى المختص الاجتماعي عرفات حلس أن غزة تواجه نسيجًا اجتماعيًا يتمزق تحت وطأة التهجير المستمر والخوف وانعدّام الأمن الغذائي والنفسي. الأسرة التي كانت مصدر دعم تحوّلت إلى معركة للبقاء، مع غياب الأب أو عجزه، وإنهاك الأم نفسيًا وجسديًا، وأطفال يعيشون بلا استقرار أو أمل أو تعليم.
هذا الواقع يولد جيلًا محاصرًا داخليًا، حيث يتحول السلوك الجماعي إلى دفاع فردي، مما يقوّض قيم التضامن التقليدية في المجتمع.
يشير حلس إلى أنّ استمرار هذه الأوضاع يؤدي إلى ارتفاع العنف الأسري، وانهيار التواصل بين الأجيال، وتصاعد العزلة خاصة بين النساء الفقيرات، ونمو ثقافة "اليوم بيومه" التي تضعف التخطيط للمستقبل.
يتداول الغزيون مصطلح "حروب في حرب واحدة" للدلالة على أن هذه الحرب لا تقتصر على القصف والنزوح فقط، بل تشمل حربًا نفسية ممنهجة تتجلى في رسائل الإخلاء عبر الهواتف، الطائرات المسيّرة التي تحلق بلا هوادة، انقطاع الخدمات الأساسية، وحصار خانق يقتل الأمل. إلى جانب ذلك، تُستخدم الاعتقالات والمعلومات المضللة لزرع الخوف واليأس في نفوس السكان.
ومثال ذلك ما وثقته هيومن رايتس ووتش (HRW)، فقد أرسلت القوات الإسرائيلية رسائل تهديد عبر الهواتف قبل دقائق من قصف المنازل في 80% من حالات النزوح، وفقاً لشهادات نازحين.
يقول المختص النفسي مصطفى كُلاب، "كلمة إخلاء أصبحت مُرادفة للموت. كل نزوح جديد هو صدمة نفسية تضيف جرحاً جديداً إلى جروح الناس". ويضيف: "الناس هنا يعيشون في حالة إنهاكٍ نفسي تامّ. الكثيرون يرفضون النزوح مجدداً، حتى لو كلفهم ذلك حياتهم".
كما يؤكد أن هذه الحرب تستهدف ليس الجسد فقط، بل الهوية والدافع للحياة. إذ تشير أبحاث مختصين نفسيين إلى أنّ الحرب النفسية في غزة تسبب انهيارًا نفسيًا مركبًا يشمل الصدمات المتكررة، القلق المزمن، الإحساس بالعجز والجوع النفسي، والتفكك الاجتماعي؛ مما يولد حالة عميقة من اليأس والفراغ النفسي بين السكان، خصوصًا الأطفال والنساء.
ويتجلى هذا التأثير بوضوح لدى الأطفال، الذين يعانون ظروف نفسية معقدة. فبحسب كُلاب، لدينا جيل كامل يكبر في ظلّ هذه الظروف، محاطًا بالخوف والجوع وفقدان الأمان، ما يؤثر بشكل بالغ على نموه النفسي والاجتماعي ويهدد مستقبله.
في أحدّ مراكز النزوح بمدرسة متضررة من قصف إسرائيلي في ديسمبر الماضي بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، يلعب مجموعة من الأطفال بألعابٍ على الرمل، لكنّ اللعب سرعان ما يتحوَّل إلى تمثيلية مرعبة.
"هذا بيتنا، وهذه طائرة تقصفنا"، يقول أحمد بدوي (6 سنوات) لأصدقائه بينما يُقلّد صوت الانفجار. تقول أمه، سمر (32 عاماً)، "ابني كان اجتماعيًا ومبدع، لكنّه الآن منعزل معظم الوقت ولا يتحدث إلا عن القصف والموت، حتى نومه أصبح كابوساً مستمراً".
تُردف السيدة التي استشارت مختصة نفسية زارت المركز ضمن فعالية تنشيط نفسي للأطفال قبل بضعة شهور، "أخبرت المختصة عن خوفه الدائم وميله للعزلة واستيقاظه ليلًا وهو يصرخ بعد رؤيته للكوابيس؛ لكنّها أوضحت لي أن الكثير يعانون أوضاعًا مُشابهة"
بحسب مركز التدرّب المجتمعي وإدارة الأزمات (CTCCM)، فإنّ 96% من أطفال غزة يشعرون بأن الموت "وشيك"، بينما يعاني 79% منهم من كوابيس متكررة، و77% يظهرون سلوكاً عدوانياً، و73% يعانون من الخوف الشديد، و49% يتمنون الموت بسبب الحرب.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية (WHO) في تقريرها الأخير أنّ 9 من كل 10 أطفال في غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادّة، بينما يعاني 70% منهم من التبول اللاإرادي بسبب الخوف.
لا يُعاني سكان غزة من الحرب فقط عبر القصف والنزوح، بل يعيشون حربًا من نوع آخر تُشنّ عبر الجوع وسوء التغذية. يصف مختصون نفسيون هذا الوضع بأنّه أحدّ أقسى أشكال الانهيار النفسي الصامت، حيث لا يُدوّي له صوت كالصواريخ، لكنّه يفتك بالبنية النفسية، خاصّة لدّى الأطفال والنساء.
في خيمة بحي النصر غرب مدينة غزة، تعيش الطفلة جوري طارق (4 سنوات) على خبز ودقة فقط، بينما تعاني من جوع متواصل يجعل والدتها تشعر بالعجز والفشل. تقول الأم: "هذه وجبتنا معظم الأيام. أحيانًا أخبرها بقصة عن طعام وهمي كي تنام."
بحسب استطلاع محلي، يعاني 62% من الأطفال أعراضًا جسدية مرتبطة بالجوع، فيما لم يتناول 47% منهم وجبة متكاملة خلال أسبوع كامل، ما يؤثر بشدة على صحتهم النفسية ويزيد من حالات العزلة والاضطرابات السلوكية.
المختص النفسي كُلاب يؤكد أن الجوع يترك فراغًا عاطفيًا وجسديًا مرعبًا للأطفال، مرتبطًا بالخوف والبقاء وليس بالحياة. الجوع هنا ليس مجرد معاناة جسدية، بل أداة حرب نفسية تؤدي إلى انهيار الأم نفسيًا عند عجزها عن توفير الطعام، مما يفاقم المعاناة اليومية للعائلات.
تحمل النساء العبء الأكبر من هذه الحرب النفسية. تقول جنات نوفل (29 عاماً)، وهي أم لثلاثة أطفال وتعيش في خيمة بالزوايدة وسط القطاع: "أنا في أسوأ مراحل حياتي. الجوع، الخوف، المرض... كل شيء ينهشني". تمسك نوفل بيدّ ابنتها التي تعاني من سوء تغذية، وتضيف: "أصبحت أمرض باستمرار ولا أستطيع التعافي. نفسيتي تدّمرت، وأحياناً أبكي لأيام لأنني لا أستطيع توفير الطعام لأطفالي".
وفقاً لتقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإنّ 65% من النازحين في غزة هم من النساء والأطفال، بينما تعاني 40% من الأمهات من اكتئاب حاد بعد فقدان المأوى والأمان.
في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، تروي السيدة كوثر العوض (40 عاماً) كيف تحوّلت حياتها إلى جحيم نفسي. "أصبح لدي خوف دائم وقلق وتوتر وأرق. عندما تبدأ الانفجارات، والتي قد تستمر من نصف ساعة إلى ساعتين، نتجمع في زاوية واحدة ولا نتحرك من الخوف"، تقول العوض وهي تضمّ طفلتها البالغة من العمر 5 سنوات، التي تهتز كلما سمعت دويّ انفجار بعيد. "نشعر أنَّ كل البيوت حولنا ستُدمر، ونحن ننتظر دورنا".
شهادة كوثر تجسد ما تعيشه آلاف العائلات في غزة، حيث لا يشعر 92% من السكان بالأمان داخل منازلهم، بحسب دراسة حديثة. ومع تكرار الغارات، أصبح "التحصّن في الزاوية" سلوكًا نفسيًا غريزيًا، حيث توصلت دراسة سلوكية محلية إلى أنّ 65% من الأهالي يلجؤون لهذا السلوك لحماية أطفالهم وتهدئة أنفسهم أثناء القصف.
تُظهر الأرقام أيضًا أنّ 51% من النساء النازحات يعانين من نوبات بكاء لا إرادية عند سماع أصوات الانفجارات، بينما تعيش 68% منهن أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، تشمل الأرق المزمن، فقدان التركيز، ونوبات قلق ليلية. وفي ظل تحليق الطائرات ليلًا بلا انقطاع، تُقدّر نسبة الأسر التي لا تحصل على نوم متواصل بـ 83%، ما يُحوّل الليل إلى امتداد دائم للرعب اليومي.
تفاقمت الأزمة النفسية في غزة مع تدمير البنية التحتية الصحية، خاصّة بعد تدمير مستشفى الصحة النفسية الوحيد في القطاع في مايو 2025. وبحسب منظمة "أطباء بلا حدود"، فإنّ95% من المرضى النفسيين لا يحصلون على أدويتهم الأساسية، في ظلّ نقص يتجاوز 87% من مضادات الاكتئاب والذهان، ومنع مستمر لدخول الشحنات الدوائية.
تتجلى قتامة الوضع أكثر حين نعلم أنّ 80% من مرافق الصحة النفسية خرجت عن الخدمة، وأن القطاع لا يضم أكثر من طبيب نفسي واحد لكل 200 ألف نسمة، وفق منظمة الصحة العالمية. وفي ظل هذا العجز، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 430,000 شخص يعانون من أعراض صدمة نفسية حادة، فيما 60% من العائلات تؤكد وجود حالة واحدة على الأقل ضمن أفرادها بحاجة ملحة للعلاج.
في خيمة أخرى بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يجلس محمد داوود (42 عاماً) الذي أفرج عنه من سجن إسرائيلي قبل أربعة أشهر. يقول: "ما زلت أستيقظ ليلاً وأصرخ. ابنتاي تخافان مني. أعاني من كوابيس عن التعذيب الذي تعرضت له".
حالة محمد ليست استثنائية؛ بل تتكرر يوميًا، في بيئة أصبحت فيها الخدمات النفسية غير متوفرة لـ 9 من كل 10 أسر، إما لانعدام الثقة أو لصعوبة الوصول.
يوضح الطبيب عايش سمور، أخصائي الأمراض النفسية والعصبية، أن الأثر النفسي للحرب لا يقتصر على الصدمات المباشرة كالقصف والنزوح، بل يتعمق بسبب نقص الغذاء وغياب الرعاية الطبية. فالدماغ يحتاج إلى عناصر غذائية مثل الحديد والزنك وفيتامين B12 للحفاظ على توازنه، وعندما يُحرم منها، تتدهور الناقلات العصبية مسببة ارتفاع القلق واضطرابات النوم والاكتئاب.
يشير سمور إلى أن غزة تشهد حالة "احتراق نفسي جماعي" بسبب الخوف والجوع المستمرين، مع تزايد نوبات الهلع حتى بين من لم يعانوا سابقًا من اضطرابات نفسية، مؤكداً أن الأطفال والمراهقين هم الأكثر تضرراً، حيث يؤثر سوء التغذية على نمو دماغهم ووظائفه بشكل قد ينعكس سلبًا على مستقبلهم.
من الناحية القانونية، يؤكد المحامي يحيى مُحارب أن تجويع السكان وحرمانهم من العلاج والغذاء، مع استهدافهم نفسيًا واجتماعيًا، يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وقد يُصنف ضمن جرائم الحرب أو الجرائم ضدّ الإنسانية.
وتطالب مراكز حقوقية محلية المجتمع الدولي بالتدخل العاجل لوقف "حرب الإبادة الجماعية"، في حين تبقى آمال سكان غزة متضاءلة، كما تعبّر جنات التي تقول: "نحن نحتاج إلى معجزة"، بينما تستمر أصوات الانفجارات كذكرى مرعبة لا تنتهي.
موضوعات ذات صلّة:
كيف يعاني أهل غزة من الأثار النفسية للحرب؟
الحرب على غزة: معاناة النساء النفسية الصامتة
كيف تحوّل صمود النساء إلى احتراق نفسي؟
خمسة حلول لنجاة النساء من العنف تحت الحرب
معاناة النازحات بين انهيار المأوى وندرة الماء
اضطراب القلق في غزة