غزة: بيع المصاغ لقاء رغيف خبز

غزة: بيع المصاغ لقاء رغيف خبز

في أحدّ محال المجوهرات بحي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، تقف إسراء صلاح (38 عامًا) أمام منضدة الصائغ، بينما تتدحرج دموعها على خديها. تنظر إلى محبس زفافها الذهبي الذي لم يُفارق إصبعها منذ ستة عشر عامًا، ثم تخلعه بسرعة، كمن يقتلع جزءًا من روحه. تضع القطعة على الميزان ليُقدّر الصائغ سعرها بينما تهمس بصوتٍ مكسور: "لم أكن لأبيعها بكنوز الدنيا؛ لكنّ الجوع كافر".

ليست هذه المرة الأولى التي تضطر فيها صلاح إلى بيع جزء من ذكرياتها بالتخلي عن مصاغها. في الأيام الأولى للحرب، عندما نزحت مع زوجها وأطفالها، باعت سلسالًا وحلقًا لشراء خيمة وتغطية نفقات النزوح.

اليوم، تعود إلى المحلّ مرّة أخرى، لكن هذه المرة لأجل شيء أكثر أساسية وهو الطعام. "لا نستطيع مجاراة الأسعار، أقلّ وجبة تكلفنا 100 شيكل"، تقول بينما تمسح دموعها، وتردف: "دبلتي بعتها لأجلب مقابلها خمس كيلوغرامات من الطحين فقط".

آلاف النساء في قطاع غزة اضطررن أيضًا إلى بيع ما تبقى من مصاغهنّ لمواجهة الجوع، ففي ظلّ الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ واحد وعشرين شهرًا، والتضييق المتزايد على المساعدات الإغاثية وإغلاق المعابر ومنع دخول المواد الغذائية منذ مارس الماضي تفشى شبح المجاعة في أوساط القطاع من جديد.

فايزة نافذ (50 عامًا) تمسك بيدها الفارغة التي كانت تحمل عقدًا ورثته عن والدتها، كانت تخطط أن تتركه لابنتها، لكنّ الحرب غيّرت كل شيء. تقول: "بعته لقاء 1500 دولار، اشترينا كيس طحين، وبقية المبلغ ذهب على العدس والأرز والقليل من الخضار خلال عشرة أيام". صوتها يهتز عندما تتذكر تفاصيل العقد: "شعرتُ أنَّ أوتار قلبي تتقطع وأنا أبيع آخر ما يربطني بوالدتي".

لم يكن بيع الذهب هو الخيار الأول للكثير من العائلات. قبل عامٍ تقريبًا، لجأ نازحون كُثُر إلى بيع ما تبقى من أثاثهم، أو حتى أدوات الطهي، كما فعل الحاج محمد مسلم الذي اضطر لبيع أسطوانة الغاز الوحيدة التي أخرجها من تحت ركام منزله مقابل بضع كيلوجرامات من الطحين. 

لكنّ استمرار الحرب وتكرار المجاعة من جديد بعد حرمان الناس من المساعدات، وارتفاع الأسعار الجنوني، دفع كثيرين لاحقًا إلى بيع مدّخرات كان يُفترض أن تظلّ لـ "اليوم الأسود".

"جاء اليوم الأسود، وأكلنا فيه طعام الطيور"، قالت مواطنة خمسينية بعدما باعت قلادتها الوحيدة لشراء الذرة المطحونة بدلاً من القمح في أزمة المجاعة الأولى وها هي تقف عاجزة أمام تجدد الظروف ذاتها اليوم.

في دير البلح وسط قطاع غزة، يقف تيسير الشبرواي، صاحب محل مجوهرات، شاهدا على هذه المأساة اليومية. أمامه تحني سيدة رأسها وهي تخرج من حقيبتها خاتمًا صغيرًا، بينما تتفادى نظرات النساء الزبائن الآخرين، وكأنّ الجوع لا يكفيها قهرًا، بل يحمّلها خجلًا مضاعفًا.

يقول البائع الشبراوي: "99% من الزبائن يأتون لبيع ذهبهم، لا لشراء الجديد"، يشرح. "نساء كثيرات يبعن قطعًا محتفظات بها منذ عشرين عامًا أو أكثر، المحال أصبحت مكتظة بالذهب، لكنّ المشترين هم قلّة قليلة فقط".

رانيا عاطف (33 عامًا) هي إحدى هؤلاء النساء. عندما أصيب طفلها بسوء التغذية ومرض اليرقان، لم تجد خيارًا سوى بيع خاتمها الذهبي، آخر ما تبقى لها من والدها. "بعته لأشتري كيلو سكر لابني"، تقول بصوتٍ خافت. "حتى الذكريات انهارت قدسيتها أمام الجوع".

لم تكن دانا الزيان (28 عامًا) تتخيّل يومًا أن تضطر لبيع سوارها الذهبي، الذي اشترته قبل عامين من مدّخراتها القليلة في خمس سنوات من العمل. كانت تخطط أن تحتفظ به ليوم زفافها، لكنه لم يصمد أمام واقع الخبز المقطوع.

"بعته لأشتري بعض علب الحليب لأخي الصغير المصاب بسوء تغذية"، تقول الزيان وهي تنظر إلى معصمها الفارغ. "ربما يمكن تعويض هذه الأشياء لاحقًا، لكن ما لا يمكن تعويضه هو شعوري بأنّ هناك مستقبلًا جميلًا كنت أخطط له."

في زاوية أخرى من محل الشبرواي، تقف ميسرة عوض أمام الواجهة الزجاجية، ترى عقدًا يُشبه عقدها القديم الذي اشترته بأول راتب لها قبل عشر سنوات. تنظر إليه لحظة، ثم تهمس: "كيس طحين كان ثمن ذكرى، والآن أستعد لبيع خاتمي وحلقي لأوفر القليل من الطعام أيضًا".

انعكست الأوضاع الماديّة المتردية على حياة سكان قطاع غزة عبر عدة أوجه، لا سيما انخفاض القدرة الشرائية بنسبة 70.41%، بينما انكمش الاقتصاد بنحو 82.5% عمّا كان عليه قبل اندّلاع الحرب. 

وعلى الرغم من أنّ القانون الدولي لاسيما المادة 33 من اتفاقية جنيف تحظر تقييد دخول الغذاء وتعتبره من العقوبات الجماعية؛ إلا أنّ "إسرائيل" ماضية في إغلاق المعابر أمام تفاقم المأساة الإنسانية على حياة السكان، ومنها ارتفاع أسعار السلع الأساسية بنسبة 53.67%؛ ما جعل 91% من السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينما أصاب الفقر عموم الناس بمُعدّل 100%.

الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر يوضح أنّ اللجوء إلى بيع المصاغ ليس سوى نتيجة طبيعية لانعدّام السيولة النقدية. "عمولة سحب الأموال وصلت إلى 48%، مما دفع الناس إلى تجنب الخسارة ببيع الذهب بدلًا من سحب مدخراتهم"، يقول.

لكنّ هذا الحلّ السريع الذي اضطرت إليه النساء يحمل في طياته دلالة أعمق، وهي "انهيار النظام الاقتصادي" وفقًا لأبو قمر، الذي أشار إلى أنّ التجار أنفسهم يعانون من شُح السيولة بسبب اختلاف سعر الذهب المحلي عن العالمي، مما أجبر البائعين على خسارة عشرة دنانير عن كل جرام مقارنة بالسوق الدولية.

وتفاقمت الأزمة الاقتصادية مع غياب أدوات الرقابة الفعلية، بعد تدمير مراكز الشرطة ومكاتب حماية المستهلك، ما جعل السوق المحلي ساحة مفتوحة للاحتكار والتلاعب، بحسب أبو قمر. 

منذ بداية الحرب الإسرائيلية، كانت العائلات في غزة تقتصد في طعامها إلى حدّ الاكتفاء بوجبة واحدة يوميًا. اليوم، وبعد 21 شهرًا، لم يعد هناك ما يُقتصد به؛ لا طعام في المخازن ولا مدخرات في الجيوب. ما تبقى هو الذهب، وذاكرة تُنتزع غرامًا تلو الآخر، في سبيل البقاء على قيد الحياة.

في زوايا محال المجوهرات بغزة، لم يعد الذهب زينةً أو رمزًا للفرح، بل تحوّل إلى شاهدٍ صامت على جراحٍ لا تُعدّ. كل قطعةٍ تُباع تحمل حكاية جوعٍ، ذكرى تُبادَل بلقمة عيش، أو دواءٍ لطفلٍ هزيل. الحرب لم تكتفِ بتحطيم الجدران، بل امتدّت إلى كسر النفوس، فجعلت من الذكريات سلعةً رخيصة أمام الجوع.

في هذه المحال، حيث تُقاس الحياة بالغرامات، لم يعد السؤال عن سعر القطعة؛ بل عن ثمن الكرامة في زمنٍ صار الجوع فيه سيد الموقف. إذ يخوض سكان غزة اختبارًا أشدّ مضاضة من القصف؛ هو اختبار الجوع، حين يُساوَم الإنسان على ذاكرته مقابل رغيف، وتُعرض بقايا الماضي للبيع لتأمين لقمة من المستقبل.

 

موضوعات ذات صلّة:

بيع المصاغ والأثاث آخر الحلول لمواجهة الجوع

المجاعة تجبر الغزيين على بيع مصاغهم الذهبي وإنفاق مدخراتهم

غزة: بيع الذهب بالخسارة للنجاة من الجوع

العوز يجبر الغزيات على بيع مصاغهن ومقتنياتهن الخاصة