على رصيف شارع الجلاء وسط مدينة غزة، تقف رحاب أبو حليمة (42 عامًا) خلف بسطةٍ صغيرة لبيع الملابس، محاولةً تأمين لقمة العيش في عالمٍ يزداد فيه الفقر والحرمان.
بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014، بدأت رحاب رحلتها مع البسطات، بعدما غادرها زوجها وسافر خارج القطاع؛ وتركها في مواجهة قسوة الحياة بمفردها، فاقتصر مشروعها في البداية على بيع مشابك الشعر والمكياج، ولكن متطلبات الحياة المتزايدة فرّضت عليها تحدّيات أكبر.
وجدَت السيدة نفسها مُجبرة على الصمود بعد أن نزحت من حي العطاطرة شمال القطاع إلى منزل عائلتها وسط مدينة غزة، لكنّ الأزمة الاقتصادية التي تطحن السكان جرّاء الحرب من كل جانب جعلت الحياة أكثر قسوة، "لقد عُدتُ مجددًا ألتقط رزقي من البيع على بسطة"، تقول رحاب التي تُعيل أربعة أفراد، بينهم طفلة مريضة.
تُردف رحاب بعد تنهيدةٍ طويلة: "كل أسبوع أحتاج لشراء حفاضات لطفلتي بمبلغٍ باهظ، وهذا يزيد من أعبائي. لكن لا خيار أمامنا سوى التكيُّف مع الواقع، فالحياة في غزة أشبه بمعجزةٍ يومية، لا فرص عمل ولا أمل في الغد".
رحاب هي واحدة من العديد من الأشخاص الذين لجأو إلى إقامة بسطات كواحدةٍ من سُبل الدّخل، غير أنّ التّعقيد يزيد بالنسبة للنساء اللواتي يُعلن أسر. ووفقًا للتقديرات الإحصائية المحليّة، ارتفعت نسبة البطالة بين النساء إلى حوالي 40% بسبب تبعات الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 2023، لتصبح هذه المشاريع البسيطة رمزًا لمعاناتهن، وأملًا في تخطي الأزمة وسط شُحّ الفرص الاقتصادية.
ومع تزايد عدد الأرامل والمُعيلات في غزة بسبب الحرب، حيث فقدت أكثر من 14,000 امرأة أزواجهن، أصبحت هذه المشاريع الصغيرة أمرًا حيويًا للبقاء على قيد الحياة.
في غزة، لا تكادّ تخلو زاوية من بسطات صغيرة لأفرادٍ اضطروا للعمل من أجلّ تأمين احتياجات أسرهم، بعد أن فقدوا مُعيلين أو وجدوا أنفسهم في مواجهة تحدّيات الحرب الاقتصادية والإنسانية.
ومع تزايد البطالة بنسبة غير مسبوقة، أصبح العمل في البسطات الوسيلة الوحيدة لكثير من الشباب والعائلات، فليست النساء فقط مَن اضطررن للعمل على البسطات وتحملن هذه الظروف بمجملها. الكثير من الأطفال والشباب أيضًا، وجدوا أنفسهم أمام خياراتٍ مستحيلة.
في أحدّ أزقة حي النصر غرب مدينة غزة، يقضي الأخوين نضال وبلال طافش ساعات طويلة على بسطاتهما الصغيرة لبيع البسكويت والمُسلّيات والمياه المعدنية وبعض الحلويات.
كان نضال (28 عامًا) يعمل محاميًا؛ لكنه تعطّل عن العمل بفعل الحرب التي دمّرت البنية التحتية للمحاكم في غزة وأوقفت العمل فيها، فتحوّلت بيئة عمله من قاعة المحكمة إلى الرصيف.
يقول نضال بصوتٍ مثقل بالهموم: "كنت أعمل في المحاكم، وكانت الحياة أسهل بكثير، ولكن مع تدمير المحاكم وإغلاقها، أصبحنا بلا مصدر دخل ثابت".
ويتابع وهو يحاول كبح مشاعره، إذ لم يكن هذا العمل جزءًا من خطط مستقبله، لكنّه الخيار الوحيد في ظلّ الوضع الراهن"أنشأت هذه البسطة على أمل أن أتمكن من تأمين بعض المال لأعيش أنا وأسرتي".
تزوج نضال منذ أشهر ، وزادت المسؤولية الأسريّة عليه. وقال: "مع تزايد المسؤولية، أصبح العبء أكبر. كان الوضع قبل الحرب أفضل، ولكن الآن، كل شيء تغير للأسوأ".
أما بلال (23 عامًا)، فكان هو الآخر مضطرا للعمل على بسطةٍ أخرى جنبًا إلى جنب مع شقيقه، وقال: "رغم أن العمل في الشارع متعب جدًا، إلا أن الحاجة للمال لتأمين الطعام دفعتنا للعمل لساعات طويلة." يُردف: "نخرج من المنزل منذ الصباح الباكر مشيًا على الأقدام لتجنب غلاء المواصلات، وأحيانًا نضع الأغراض في محل تجاري قريب لحمايتها من الشمس".
وعلى الرغم من قسوة الوضع، وتبدُّل أحوالهم من الرخاء إلى الفقر، فإن الشقيقين لا يريان العمل على البسطة أمرًا مُشينًا. يقول نضال بحزم: "الشغل ليس عيبًا، الأهم أنني أتمكن من تأمين احتياجات أسرتي".
المواطنة نادية صبح (50 عامًا)، تواجه هي الأخرى، تحدّيات لا تقل صعوبة عن تلك التي يواجهها غيرها، فهي تقف يوميًا أمام بسطة صغيرة في أحدّ شوارع مدينة غزة، حيث تعرض مخبوزاتها التي تعدّها بنفسها.
تقول نادية بصوتٍ باكٍ: "فقدت شابين خلال الحرب كانا سندًا لي ولإخوتهم الصغار، وبعد استشهادهما، اضطررت للعمل لتأمين مصدر دخل لأطفالي". تردف: "عمل المرأة في الشارع يعني أن تصبح امرأة ورجل في آن واحد، فعليها أن تحتمل مسؤولية مضاعفة".
وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، تقضي نادية ساعاتٍ طويلة في إعداد المعجنات على الفرن. "العمل شاق ومرهق، لكن لقمة العيش أصعب في غزة"، تقول نادية، مشيرة إلى أن العمل أصبح الآن ضرورة مُلِّحة.
ومن الواضح أنَّ العمل في هذه البسطات، يترك أثرًا نفسيًا عميقًا خصوصًا على النساء، ويقول المختص النفسي مصطفى كُلاب: "تضطر العديد من النساء للعمل في الشوارع بسبب الظروف الاقتصادية القاسية الناتجة عن الحصار والحروب. لكنّ هذا العمل يفرض عليهن تحمل دور مزدوج؛ دور الأنثى المُعيلة والأم، وفي الوقت نفسه يُطلَب منهن تأدية دور "المعيل الذكر" بسبب غياب الرجال العاملين نتيجة البطالة المرتفعة.
وأوضح كلاب قائلاً: "ومع ذلك، يتعرضن لضغوط مجتمعية حادة، حيث يُنظر إلى خروجهن للعمل في الشارع على أنه "خروج عن الطبيعة الأنثوية"، مما يجلب لهن النقد الاجتماعي والوصم، مما يزيد من معاناتهم النفسية والجسدية".
كما أنَّ العمل في الشوارع في غزة يعرض المرأة لاستغلال مادي وجنسي، في ظلّ غياب الأمان القانوني والاجتماعي. حسبما أوضح كُلاب مشيرًا إلا أنّ المرأة في غزة تحتاج إلى دعم قانوني واجتماعي لحمايتها من الاستغلال والنقد الجائر في ظلّ تحملها مسؤولية إعالة الأسرة.
في المقابل، يُقرّ عضو الأمانة العامة للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، سلامة أبو زعيتر، بتأثيرات الحرب الاقتصادية على الفئات الهشة وبخاصّة على النساء اللواتي فقدن أعمالهن أو فقدن المعيل، حيث أدّى الدمار الواسع في القطاع الخاص إلى فُقدان العديد من العمال، أو الحرمان من العمل بسبب تدمير المنشآت الاقتصادية.
وقال أبو زعيتر إن تدّمير محطات الكهرباء والورش الصناعية والمحالّ التجارية جعل البسطات الخيار الوحيد أمام الفئات الهشة لتأمين قوت يومها.
ازدادت ظاهرة البسطات في مناطق النزوح، حيث يبيع النازحون سلعًا بسيطة في الغالب على الأرصفة لتغطية الأعباء المالية. ومع ذلك، يُواجه أصحاب البسطات تحدّيات كبيرة، أبرزها نقص الحماية القانونية والاجتماعية؛ مما يُعرِّضهم للاستغلال من جهاتٍ غير رسمية.
ويؤكد أبو زعتير، أنَّ هناك حاجة ماسة لتوفير دعم مالي وقروض ميسرة لهذه المشاريع الصغيرة، بالإضافة إلى حماية قانونية واجتماعية لضمان استدّامتها. فيما تُشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى ارتفاع نسبة البطالة في غزة إلى 80% بفعل الحرب، بينما أظهرت منظمة العمل الدولية أنّ أكثر من 80% من العاملين في غزة لا يحصلون على عقود عمل أو حماية اجتماعية.
يتقاطع ما يقوله المحلل الاقتصادي، محمد مقداد، مع سابقه في التأكيد على أنَّ تدمير البنية الاقتصادية، بما في ذلك تدمير القطاع الخاص وورش العمل، جعل الحاجة إلى المال أمرًا بالغ الأهمية.
وقال مقداد: "البسطات أصبحت ضرورة حيوية في حياة العديد من العائلات الغزية، حيث تعتبر بديلاً عن المحالّ التجارية الكبيرة التي دُمِرت بفعل الحرب". لكنّه أكدّ على أنَّ التحول إلى الاقتصاد غير الرسمي، رغم أهميته، لم يخلُ من التحدّيات القانونية.
واتفق حديثه المحلل الاقتصادي مع قول عضو الأمانة العامة لنقابات العمال، على أنَّ أصحاب البسطات يواجهون صعوبات كبيرة بسبب غياب الحماية القانونية الناتجة عن فوضى الحرب.
ومع استمرار الوضع الميداني والإنساني الخطير، فأنّ مقداد توقع أن تظل البسطات جزءًا من الحياة الاقتصادية في غزة لوقت طويل خصوصًا مع غياب فرص وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار. لذلك شدّد على ضرورة وجود دعم شامل لضمان ديمومة تلك المشاريع البسيطة. وقال: "تبقى البسطات مجرد بديل، لكنها لا تكفي لضمان الاستدامة الاقتصادية على المدى الطويل."
بالنسبة للكثيرين، تُعد البسطات أكثر من مجرد وسيلة للكسب، فهي تمثل بالنسبة للكثير من سكان غزة، ولا سيما النساء والشباب، فرصة صغيرة لاستعادة جزء من كرامتهم، حيث يشعرون أنهم قادرون على تأمين احتياجاتهم بأنفسهم بعد أن دمرت الحرب كل ما كانوا يعتمدون عليه. ولكن في نفس الوقت، تحمل هذه الأعمال العديد من الضغوط النفسية، بسبب صعوبة الحياة اليومية، وعدم اليقين بشأن المستقبل. ومع ذلك يبقى الدعم والحماية ضرورة ماسة تستوجب التدخل العاجل من الحكومة والمنظمات المختصة، لضمان حقوق هؤلاء العمال وتحسين ظروفهم المعيشية.
موضوعات ذات صلّة:
نحو 19% تعمل و14 ألف تعيل.. المرأة الفلسطينية بطالة عالية وصمود اسطوري
العمل من الشارع.. واقعٌ فرضه العدوان على شباب غزة تحت مظلة الموت والحاجة
"البسطات".. سلاح الغزيين في مواجهة الجوع
طلبة غزة.. من مقاعد الدراسة للجلوس على البسطات لإعالة ذويهم
بسطات غزة