"أونروا" تُعاقب موظفيها العالقين بالراتب

"أونروا" تُعاقب موظفيها العالقين بالراتب

نزحت المواطنة الفلسطينية سهام محمود (46 عامًا) من قطاع غزة إلى جمهورية مصر العربية خلال الحرب الحالية.

لم يُخيل إلى السيدة محمود والتي كانت تعمل موظفة في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أن نجاتها من الموت، ستُوقعها فريسةً للفقر، ذلك بعد أن قررت الوكالة الأممية وقف صرف راتبها والعشرات من الموظفين الذين خروج من القطاع هرباً من نيران الحرب.

تقرَع هذه السيدة الآن أبواب المؤسسات التعليمية، في القاهرة بحثًا عن فرصةِ عمل. وبخاصّة أنها أصبحت عُرضةً للطرد من الشقة السكنية التي تستأجرها في أحدّ أحياء القاهرة بقيمة (400 دولار) شهريًا.

الموظفة المحرومة من الراتب هي مريضة بالفشل الكلوي، وعاشت مرارة النزوح داخل قطاع غزة جرّاء اندلاع الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكتوبر 2023، تقول بعد تنهيدةٍ طويلة: "تحت وطأة الحرب في غزة، نزحت من بيتي، واضطررت للمبيت في سيارتي الخاصّة أنا وأولادي لأيام عديدة، ثم انتقلت للعيش في خيمةٍ ذات أوضاع صحيّة ومعيشية مُزرية للغاية عدة أشهر، حتى ساءت حالتي الصحيّة جدًا وقررنا بيع المركبة وتحمل تكلفة السفر ثم انتقلنا إلى مصر".

دخلت السيدة في نوبة حزنٍ شديدة رافقها آلام جسدية، نتيجة ذلك القرار الذي وصفته "بالظالم" وتساءلت باستغراب: كيف تتخلى الأونروا عن موظفيها الذين أفنوا أعمارهم في العمل بهذه السهولة، وتُجبرنا على البقاء تحت الموت؟".

وأصدرت الوكالة الأممية في الخامس من فبراير/ شباط الماضي، قرارًا بمنح 526 موظفًا نازحًا من قطاع غزة إلى مصر من بين نحو 650 موظفًا، ومن أصل (13.000 يقبعون داخل القطاع)، إجازة استثنائية "إجبارية" مدّة عام كامل دون راتب؛ بدعوى عدم وجود موازنة كافية.

وأثار هذا القرار غضب الموظفين الذين أصبحوا عالقين دون قدرة منهم على العودة في ظلّ إغلاق الاحتلال لمعبر رفح البري، واعتبروه (أي قرار الأونروا) قرارًا جائرًا ومخالفًا للقوانين التي تَكفل حقهم في الحصول على رواتبهم.  

لا يملك موظفي الأونروا العالقين، إقامة قانونية تتيح لهم العمل وفقاً لإفادة عدد منهم؛ وهو ما يزيد تعقيد وضعهم المالي. خاصّة أنّ الكثير منهم غادروا غزة مُرغمين كمرافقين لجرحى أو لتلّقي العلاج بسبب الإصابة، أو حتى طلبًا للنجاة بسبب ظروف الحرب القاسية.  

على الرغم من مرور شهرين على صدور القرار، لا تزال تدّاعياته تتفاقم وسط صمت رسمي من "أونروا".

صلاح عبد اللطيف (*)، مهندس ميكانيكي يعمل في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" منذ عقدين، غادر غزة في فبراير 2024 هربًا من سطوة الحرب الإسرائيلية، مصطحبًا زوجته وأطفاله الخمسة، بعد أن حصل على إذنٍ رسمي من مديره المباشر ومدير الموارد البشرية في دائرته.

لكن الإذن الرسمي بالسفر خارج القطاع الذي قدّمه عبد اللطيف البالغ من العمر (50 عامًا)، لم يحميه من قرار "أونروا" بحقّ جميع الموظفين النازحين خارج قطاع غزة جرّاء الحرب.

وقال: "اجتمع بنا السيد باولو، مسؤول في "أونروا" في السادس من فبراير الماضي، في القاهرة وأخبرنا بقرار الإجازة الإجباري دون راتب؛ لكن لم يُقدِّم إجابات وافية لأسئلتنا أو تبرير للقرار سوى الحديث عن التحدّيات المالية التي تواجهها الوكالة".

اليوم، يعتمد عبد اللطيف في تأمين احتياجات أسرته على فُتات ما تبقى من مُدّخرات زوجته التي بدأت تنفذ بعد مرور شهرين على القرار، ولا يتوقف عن التفكير في كيفية تدبير أموره إذا استمر انقطاع مصدر دخله الوحيد، في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها عائلته، فيما ما يزال في انتظار ردَّ رسمي من "أونروا" لحلّ أزمة الموظفين.

ولم يختلف الواقع بالنسبة للموظف حسان نصر (57 عامًا)، كثيراً. حيث يُشير إلى أنّه التزم في عمله حتى بعد اندّلاع الحرب، إلى أنّ أُصيب بوعكة صحية مفاجئة أفقدَته القدرة على الإبصار  في إحدى عينيه، فتقدَّم بطلبٍ من إدّارته للسفر لتلّقي العلاج. وفي أبريل 2024 سافر إلى مصر، بعد تلّقِي موافقة على السفر من مدراءه في العمل، حسب تأكيده.

يقول نصر (*) الذي سافر رفقة زوجته تارِكين خلفهم أبنائهم الستة، تحت نيران الحرب، إنّه كان يرسل للأبناء وبشكلٍ شهري مبلغًا ماليًا للإنفاق على احتياجاتهم اللازمة من مأكل ومشرب، بينما كان يُواجه تحدّي توفير العلاج واستئجار المسكن، إلى جانب المصاريف المعيشية الأخرى، حسبما قال.

ويُردف وقد غلَب على صوته الحزن: "بعد قطع راتبي أصبحت أعاني كارثة مالية امتدّت لعائلتي في غزة التي أصبحت تعاني نيران الحرب ونيران تكاليف المعيشة فيها دون مصدر دخل يُعيلهم، وسط أسعار سلع خيالية جرّاء إغلاق المعابر واستمرار الحرب".

يستنكر نصر قرار الأونروا الذي وصفه بـ "التعسفي"، خاصّة أنّه طلب السفر  مبرر وخاص بالعلاج، وكان قد كُلِفَ قبل القرار للعمل كمعلم عن بعد، وبدأ المتابعة في المدارس الافتراضية في يناير 2025، إلى أن أُبلِغ بقرار قطع الراتب في الشهر التالي.

غير أنّ تداعيات القرار بحقّ موظفي أونروا خارج قطاع غزة، لا يقتصر على التأثير المالي عليهم؛ بل امتدّ ليشمل صحة الموظفين النفسية.

يقول المختص الاجتماعي والنفسي عرفات حلس إنّ القرار جاء في وقتٍ حَرِج، إذ يعاني الموظفون سواء في الداخل أو الخارج من كارثة أودّت باستقرارهم المعيشي؛ مما يضاعف معاناتهم اليومية ويُعمِّق الضغوط النفسية عليهم وعلى عائلاتهم.

وأضاف حلس أنَّ شعور التخلي من قبل مؤسسة كانت تضمن حقوق الموظفين لفترةٍ طويلة هو شعور قاسي، وقد سببَ صدمة نفسية للكثير منهم وحالة من الحزن العميق والتفكير المستمر في كيفية مواجهة المستقبل، بعد فقدان مصدر دخلهم الرئيس؛ مما يؤثر على الأدّاء السلوكي الحياتي لهم.

إزاء هذا الواقع الذي ألقى بأثارٍ سلبية على المستوى المعيشي والنفسي، سَلك موظفو الأونروا الذين أُجبروا على الإجازة القسرية، طرقًا قانونية للمطالبة بحقوقهم. غير أنَّ مصدر في اتحادّ موظفي الوكالة أكدّ لـمراسلة "آخر قصة" أنّ الجهود الحقوقية والقانونية لاستعادة الرواتب لم تُثمر بعد، بينما يعاني الموظفون النازحون -بحسب شهادة الكثير منهم- من تدّهور أوضاعهم المعيشية والصحيّة، خاصّة مع ارتفاع تكاليف الإقامة في مصر وانعدام فرص العمل النظامي.

محاولات متجددة من الصحفيين والمنظمات الحقوقية للحصول على توضيحات من إدارة الوكالة باءت بالفشل، فيما يبدو أن القرار يُنفذ رغم كل الاحتجاجات.

بموازاة ذلك، حاولت مُعدّة التقرير، التواصل مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" بقطاع غزة عدّة مرات، للتعرّف على الأسباب وراء هذا القرار وكيف سيتم التعامل لاحقًا مع الموظفين، لكنّ جميع المحاولات باءت بالفشل بعد اعتذار المسؤولين عن إجراء المقابلة.

ويبدو أن "أونروا" اكتفت بتصريح المفوض العام لها فيليب لازاريني، الذي برر القرار بعدم وجود تمويل كافي لتغطية رواتب الموظفين النازحين خارج قطاع غزة، إذ تعاني "أونروا" من شُح في ميزانيتها المخصصة لغزة، دون الإدّلاء بأيّة تفاصيل تتعلق بمستقبلهم المهني والمالي.

في الأثناء قال المصدر في اتحادّ الموظفين والذي رفض الكشف عن اسمه: "إنّ الاتحاد يعمل بشكلٍ حثيث لرفع الظلم عن الموظفين، وقد تواصلوا مع إدارة الوكالة لإبلاغها برفضهم القاطع للقرار، مؤكدًا أنَّ جميع الموظفين النازحين غادروا غزة تحت ظروف قاهرة، وقد اتبعوا الإجراءات الإدارية اللازمة قبل مغادرتهم".

وبحسب المصدر،  فإنّ القرار الذي شمل قطع رواتب 562 موظفًا نازحًا في مصر من أصل 650 موظفًا، أبقى على رواتب نحو 88 موظفًا، وبينما تساءل البعض عن الأسباب وراء ذلك، أشار "آخرون" إلى وجود محاباة ومحسوبية في القرار تجاه بعض الموظفين دون الآخرين، تركت "أونروا" الأسئلة مفتوحة دون إجاباتٍ واضحة.

في ردود الفعل على القرار، أكدّ "المؤتمر العام لاتحادات العاملين في وكالة الغوث الدولية" أنّ قطع الرواتب يُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون وحقوق الموظفين، مشيرًا إلى أنّ هذا القرار سيجعل الموظفين في دائرة الفقر والعَوز، ويُعرِّضهم لمشاكل قانونية بسبب عدم قدرتهم على تأمين احتياجات عائلاتهم.

وفقاً لبيانات اتحادّ الموظفين، فإن 60% من النازحين المُتضررين لم يعودوا قادرين على سدّاد إيجارات منازلهم في مصر، بينما اضطر 40% منهم إلى اللجوء للمساعدات العائلية أو الإنسانية.

وطالب القائمون على المؤتمر في بيانٍ صدر عنه، "الأونروا"، بمراجعة القرار وصرف الرواتب لجميع الموظفين دون استثناء، مع الحفاظ على قرار العمل عن بعد للموظفين خارج غزة.

على المستوى القانوني، أشار المحامي الفلسطيني رامي محسن، إلى أنَّ القرار يتناقض مع القيم الإنسانية والقانونية، كونه يَحرِم الموظفين من حقوقهم في وقت هم بأمس الحاجة إليها، معتبرًا أن جميع الموظفين الذين اضطروا لمغادرة غزة تحت وقع الحرب، كانوا قد اتخذوا الإجراءات الإداريّة اللازمة قبل مغادرتهم وفقًا للأصول.

ودعا محسن إدارة الوكالة الأممية إلى إعادة النظر في القرار والتراجع عنه، وإزالة أي ضرر ناتج عنه، بما في ذلك العمل على تسهيل عودة هؤلاء الموظفين إلى رأس عملهم، بالإضافة إلى دعوة الأمم المتحدة لتخصيص ميزانية ثابتة للوكالة أسوةً ببقية الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، بما يؤهلها القيام بواجباتها الموكلة إليها تجاه مجتمع اللاجئين وفقًا للتفويض الأممي.

بعد شهرين من القرار، لم يطرأ أيّ تغيير على أوضاع الموظفين النازحين، بينما تؤكد مصادر حقوقية أنّ ملف الرواتب المُقطوعة ما زال "مغلقاً" في أدراج "أونروا" دون أيّ حلول على الطاولة. وعلى الرغم من التحدّيات المالية، يبقى قطع رواتب النازحين قراراً "مجحفاً" يتناقض مع المبادئ الإنسانية وفقًا لآراء حقوقيين وخبراء قانونيين، اعتبروه إجراء غير قانوني يزيد أزمة النازحين تعقيداً، فهل ستتراجع "أونروا" عن قرارها أم ستترك نازحي غزة يواجهون مصيرهم المجهول؟

(*) أسماء مستعارة

 

موضوعات ذات صلّة:

أونروا توقف عمل موظفيها عن بعد في غزة وسط استنكار حقوقي

"أونروا" تفرض على موظفيها النازحين خارج غزة إجازة استثنائية

حظر الأونروا: مصير لاجئ غزة على المحك