تسببت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي امتدت من (7 أكتوبر 2023 – 19 يناير 2025) في دمار واسع طال جميع القطاعات، أبرزها القطاع الزراعي، إذ تعرضت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية للتجريف والقصف، إلى جانب تدمير البنية التحتية الزراعية؛ مما أدى إلى انهيار الأمن الغذائي وارتفاع نسب البطالة والفقر بشكلٍ غير مسبوق.
ويُعد القطاع الزراعي إحدى الركائز الأساسية للاقتصاد الفلسطيني، إذ يغطي ما يقارب 41% من مساحة القطاع؛ مما يسهم بشكل رئيس في توفير الأمن الغذائي للسكان، ويُشكِّل نحو6.8% من إجمالي القوى العاملة في غزة.
وكانت تعد غزة عاصمة للفراولة، وكانت تتصدر قائمة مصدريها إلى الأسواق الأوروبية، إلى أن جاءت الحرب وأحالتها إلى أرض جرداء. ومع أعمال العنف والدمار، تحوّل قطاع الزراعة إلى صحراء قاحلة، لاسيما مع تجريف أكثر من 101,830 دونمًا من الأراضي الزراعية؛ ما يمثل 68% من إجمالي المساحات المزروعة، وفقًا لتقارير صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO).
ويتكون القطاع الزراعي من الإنتاج الحيواني بشقيه الماشية والدواجن، الإنتاج النباتي بما يتضمن محاصيل حقلية وخضراوات وفواكه، والبنية التحتية وتشمل الآبار الزراعية والدفيئات الزراعية، وهو ما يقسم أنشطته ما بين التربية الحيوانية للماشية والدواجن والزراعة البستانية والحقلية والصيد البحري؛ مما يُسهم في الكثير من العمليات لا سيما التصنيع الغذائي، توفير الغذاء المحلي، تصدير السلع الزراعية، والناتج المحلي الإجمالي.
خليل حمد، مزارع من شمال غزة، فقد أرضه الزراعية البالغة 12 دونمًا بعد أن جرفها الاحتلال بالكامل، يقول: "نحن مزارعون أب عن جد، رأس مالنا كله في الزراعة، وأنا كنت استثمر ريع الأرض في إعالة أسرتي المكونة من سبعة أفراد، والآن خسرنا كل ما نملك ولا يوجد لدينا مصدر دخل آخر".
يردف المزارع حمد وهو يتحدث بقهرٍ بالغ لـ "آخر قصة": "جرّفوا الأرض بالكامل، حوّلوها إلى صحراء قاحلة، سنعود نعمر من الصفر ونحن لا نمتلك أيّة أدوات أو مقومات وموارد وبذور وأسمدة ومبيدات، كما لا نستطيع تشغيل الآبار بسبب عدم وجود الوقود والكهرباء لإعادة حراثة الأرض وزراعتها".
وقالت مدير عام الخدمات الزراعية في وزارة الزراعة الفلسطينية إيمان جرار إنّ الخسارة شاملة في كل ما يتعلق بالزراعة، في إشارة إلى أنّ القنابل الفسفورية التي ألقاها الاحتلال أثرت بشكل كارثي على خصوبة التربة مما يجعل استصلاح الأراضي عملية صعبة، كما يجعل مستقبل الزراعة في غزة مجهولًا.
وأدّت كمية المتفجرات التي سقطت على قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 365 كلم2، إلى خرابٍ فادح وأضرار هائلة في عشرات الآلاف من الدونمات الزراعية وأثرت على خصوبة التربة؛ ما أدى إلى عدم مواءمتها وصلاحيتها للزراعة، وهو ما قد يقضي على الزراعة بشكلٍ كامل وسيوثر بشكل كبير وعلى المدى البعيد، بحسب جرار.
ولم تقتصر الأضرار في القطاع الزراعي على الأراضي فقط؛ بل امتدّت إلى المحاصيل الزراعية الأساسية، إذ تبين في دراسة بحثية أعدّها الباحث رامي الزايغ لمركز رؤية للتنمية السياسية حول الآثار الاقتصادية الناجمة عن تدمير القطاع الزراعي، أنّ الأرقام سجلت تدمير75% من أشجار الزيتون، وتضرر71.2% من مزارع الأشجار المثمرة، بينما تراجعت زراعة الخضروات بنسبة 58.5% ؛ ما أدى إلى نقص حاد في المعروض الغذائي.
وتبلغ مساحة أضرار المحاصيل الزراعية في عموم محافظات قطاع غزة (101,830 دونمًا) بما نسبته 68% من المساحة الإجمالية، وهو ما تضمن البساتين والأشجار الأخرى والخضراوات والمحاصيل الحقلية.
أما الآبار الزراعية فقد تضرر (1,188 بئرًا) وهو ما يُشير إلى تضرر أكثر من نصف الآبار الزراعية في القطاع بما نسبه 52.5%، فيما استحوذت محافظة غزة على أعلى نسبة من الدمار ما بين جميع المحافظات.
بالإضافة إلى ذلك تضررت الدفيئات الزراعية التي يبلغ عددها (5.779 دونمًا) وهو ما نسبته 44.3% من إجمالي الدفيئات في قطاع غزة.
في رفح جنوب قطاع غزة، يتفقد المزارع حسن العرجان، الخراب الكبير الذي لحق بمزرعته التي دمّرت كليًّا بفعل أعمال التجريف العسكرية الإسرائيلية.
يقول العرجان: "كنا نزرع الطماطم والخيار ونغطي السوق بهذه الخضراوات، بالإضافة إلى أشجار النخيل، لكن آليات الاحتلال اقتلعت كل الأشجار ودمّرت المساحة كاملة".
وبالإضافة إلى مخاسر هذا المزارع، فإنّ الاحتلال دمر آبار المياه في أرضه الزراعية تدميرا تامًا.
إلى جانب المزارع العرجان يعاني آلاف المزارعين والمستفيدين من القطاعات الأخرى من خسائرهم الفادحة أيضًا، إذ لحقت أضرار بقطاع الإنتاج الحيواني؛ ما أدى إلى نفوق 95% من الماشية وذبح جميع العجول على مدار خمسة عشر شهر مدة الحرب الإسرائيلية، فيما توقف معظم الإنتاج التجاري.
وإلى جانب الدمار الذي طال الأراضي الزراعية، فقد تضرر قطاع الصيد البحري -الذي يُعيل أكثر من 4,054 صيادًا- وشهد دمارا شاملا بعدما كان إنتاجه يغطي جزءًا كبيرًا من استهلاك سكان القطاع الذين يزيد عددهم عن اثني مليون ونصف نسمة.
وعلى بعد 300 متر من شاطئ بحر غزة، يعمل صيادون فلسطينيون على إعادة ترميم قوارب يدوية صغيرة تعمل دون محرك. في محاولة منهم لاستئناف عملهم، والذي يصطدم بكثير من الأحيان بانتهاكات إسرائيلية جسيمة، حيث تطلب قوات خفر السواحل الإسرائيلية النار على كل متحرك داخل المياه.
وقال عضو نقابة الصيادين نايف أبو ريالة إنّ الكثير من الصيادين قضوا نحبهم أثناء ممارسة عملهم اليومي. وقد بلغ عدد القتلى من الصيادين 150 صيادًا، 40 منهم أرتقوا أثناء مزاولة عملهم في عرض البحر.
بموازاة ذلك، تضررت البنية التحتية الزراعية بشكلٍ عام بما يشمل الحظائر المنزلية، مزارع الدجاج اللاحم، مزارع الأغنام، مستودعات ومخازن زراعية، البرك الزراعية، وملاجئ الحيوانات وغيرها.
ترتبت على تلك الأضرار آثار اقتصادية هائلة، ويوضح تقرير صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أنّ القيمة الإجمالية للإنتاج النباتي انخفضت بنسبة 54% مقارنة بعام 2022، وهو ما انعكس على الأسواق بارتفاع أسعار المنتجات الأساسية خلال الحرب، مثلًا ارتفعت أسعار البندورة بنسبة 490%، البطاطا بنسبة 560%، البيض بنسبة 440%، ولحم العجل الطازج بنسبة 241%.
وفقًا لتحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC 2024)، فإنّ 91% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينما يواجه 345 ألف شخص مستويات كارثية من الجوع. هذا الوضع تفاقم بعد فقدان غزة لاكتفائها الذاتي من المنتجات الزراعية، إذ بات الاعتماد على الواردات بنسبة 100% بعد أن كانت لا تتجاوز 44% قبل الحرب.
ووفقًا لدراسة الباحث الزايغ فإنّ لتدمير القطاع الزراعي تأثير هائل على الاقتصاد الفلسطيني وبنسب غير مسبوقة، وذلك من خلال انخفاض مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة (55%) وتراجع القيمة المضافة بنسبة (93%)، توقفت الصادرات بنسبة (100%)، ارتفاع الاعتماد على الاستيراد بشكل تام أيضًا، وانعدام الأمن الغذائي الحادّ بمعدّل (96%) وأخيرًا توقف الإنتاج المحلي الزراعي تمامًا.
أم حسن العطاونة، أرملة وأمًا لخمسة أطفال، كانت تعتمد على بيع منتجات الألبان في السوق المحلي. تقول: "نفقت كل ماشيتنا ولم يعد هناك إنتاج، والأسعار ارتفعت لدرجة لا يمكننا شراء الطعام الكافي لإعالة أسرتي وأطفالي الخمسة".
وكانت السيدة عطاونة معروفة في سوق الخضرة بحي الشجاعية تبيع الأجبان والألبان من تربية بعض الماشية في بيتها، لكن اليوم خسرت كافة ماشيتها وتدمر السوق بالكامل فقد فقدت مصدر دخلها ومكان عملها كذلك.
بناء على سبق، يبدو واضحا أن الآثار الاقتصادية للأضرار الزراعية امتدت لتصل إلى الأوضاع المعيشية والمادية بشكلٍ حادّ على الأسر التي كانت تعمد في الدخل على الزراعة والمواشي، بما يشمل القوى العاملة ونسب البطالة، وأسعار السلع والمنتوجات الزراعية، ومتوسط الإنفاق والاستهلاك للأسر في قطاع غزة، والقوة الشرائية للمواطن، إذ تسهم هذه الآثار في أضرار اقتصادية بليغة على المدى البعيد، وتخلق ضغوطات معيشية واقتصادية كبيرة.
وبحسب الزايغ، تسبب تدمير القطاع الزراعي في فقدان 19,500 فرصة عمل، أي أن العاملين في القطاع الزراعي دخلوا في حيز البطالة التي ارتفعت نسبتها إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة فقدان الوظائف في القطاعات المرتبطة بالزراعة مثل التجارة والصناعة.
وبينت أرقام الدراسات المحليّة ارتفاع الأسعار بنسبة (400%)، ارتفاع التضخم مؤشر غلاء المعيشة (283%)، انخفاض القوة الشرائية (62%)، انخفاض دخل الأسر الزراعية (72%)، وكذلك انخفاض استهلاك الأسر للمنتجات الزراعية (56%).
هذه الأضرار البليغة وآثارها الاقتصادية التي نتجت عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي تتنافى مع ما ينصّ عليه القانون الدولي، وفي هذا الإطار، يقول المحامي يحيى محارب المختص في القانون الدولي إنّ "استهداف المنشآت الزراعية وتجريف الأراضي بشكل ممنهج يعد انتهاكًا صريحًا لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر تدمير مصادر الغذاء والبنية التحتية المدنية".
وجاء في نصّ المادة (53) من الاتفاقية أنّه "يحظر على دولة الاحتلال تدمير الممتلكات الخاصة إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي ذلك بصورة مطلقة"، كما نصّت المادة (147) على أنّ "تدمير الممتلكات والاستيلاء عليها على نطاق واسع، والذي لا تبرره ضرورات عسكرية، يشكل انتهاكًا جسيمًا للاتفاقية".
وأضاف محارب أن "إسرائيل تنتهك أيضًا المواثيق الدولية المتعلقة بالحق في الغذاء، مما يستوجب تحركًا قانونيًا دوليًا". مشيرًا إلى ما تنصّ عليه المادة (11) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: "على أن لكل شخص الحق في مستوى معيشي لائق، بما في ذلك "الغذاء الكافي"، ما يعني أن تدمير الأراضي الزراعية يشكِّل انتهاكًا للحق في الغذاء".
وقال إنّ القانون العرفي الدولي يصنف الممارسات مثل التدمير الممنهج للأراضي الزراعية والتجريف الجماعي كـ "جريمة حرب" بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (المادة 8) التي تحظر تعمد توجيه هجمات ضد الممتلكات التي لا تشكل أهدافًا عسكرية.
بناءً على ذلك، أدانت قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة مرارًا تدمير إسرائيل للأراضي الزراعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث وصف تقرير الأمم المتحدة لعام 2023 هذه الأفعال بأنها شكل من أشكال العقاب الجماعي المحظور دوليًا.
ووفقًا لآراء خبراء ومختصين في المجالين الزراعي والاقتصادي، لم يكن تدمير القطاع الزراعي في غزة مجرد خسائر اقتصادية، بل كان ضربة مباشرة للحياة والمقاومة الاقتصادية لسكان القطاع. ومع غياب أي بوادر حقيقية لإعادة الإعمار، تبقى غزة رهينة للجوع والفقر، في ظلّ واقع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
مواضيع ذات صلّة:
سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد
كم تحتاج سلة غزة الزراعية وقتاً للتعافي؟
خسائر بالجملة: عن تجربة الزراعة على الحدود
حرب غزة تضرب قطاع الزراعة الإسرائيلي وتكبده خسائر فادحة
تدمير الأراضي الزراعية بغزة