العمل عن بعد: عائدات لا تغطي قائمة النفقات

قائمة مصروفات موظفة عبر الأونلاين

العمل عن بعد: عائدات لا تغطي قائمة النفقات

تمسك ضحى جمعة، في الثانية والثلاثين من عمرها، بدفترٍ صغير وقلم، وسط ركام منزلها المُدّمر تدميرًا بليغًا في حي النصر بمدينة غزة، محاولة جدولة مصروفاتها اليومية التي ازدادت بفعل ظروف الحرب ومآلاتها على الواقع المعيشي والاقتصادي لأسرتها.

تقول المواطنة جمعة، إن النمط المعيشي في قطاع غزة، اختلف جرّاء الحرب الإسرائيلية التي امتدّت خمسة عشر شهرًا، وأدت إلى تعطل مئات الآلاف عن أعمالهم ورفعت معدلات البطالة، وعمقت حالة الفقر على السكان. 

ولا شك في أن أساليب معيشة السكان قد تغيرت في ظلّ الدمار الواسع الذي طال البنى التحتية وشبكات المياه، وما ترتب عليه من انقطاع شبكات الكهرباء والاتصالات والانترنت ووقف دخول الوقود والمحروقات، وهو ما انعكس بشكلٍ مباشر على حياة الناس في القطاع بشكلٍ عام.

ومن أشكال تغيرات نمط الحياة في القطاع، أنّ العديد من الأسر تضطر لشراء المياه الصالحة للشرب بالجالونات، وشحن الأجهزة الكهربائية والالكترونية عبر نقاط شعبية تجارية تتوفر فيها ألواح طاقة شمسية بأسعار مختلفة، أما شبكات الانترنت فلا تتوفر في كثير من الأماكن إلا كشبكات عامة تُباع بطاقاتها في نقاط معينة.

أمام هذا كله تتجسد معاناة الآلاف من المواطنين، من بينهم المواطنة ضحى، وهي أم لطفلين، وتحاول كل شهر تنظيم مصروفاتها، لكن محاولاتها تبوء بالفشل كما تقول.

لا تستطيع هذه السيدة مجاراة شراء السلع بالأسعار الفلكية الجديدة، ولا نمط الحياة الذي أُجبرت عليه.

تعمل ضحى كاتبة محتوى في أحد المواقع الإخبارية، وتتقاضى راتبًا شهريًا لا يتجاوز (300) دولار، وحتى تحصل عليه تدفع عمولة تزيد قيمتها عن (50) دولارا في كل مرة، في ظلّ تعطل عمل البنوك في غزة وانتشار تجار السيولة النقدية، والتي تستوجب بمقابل الحصول على أي مبلغ من المال عبر التطبيق البنكي، دفع قيمة فائدة تتجاوز في بعض الأحيان 30% من قيمة المبلغ المراد صرفه.

وتتنوع مصروفات ضحى ما بين الإنفاق على شراء بطاقات الإنترنت التي تضطر إلى شرائها يوميًا لمتابعة عملها عبر الإنترنت، ومصروفات شحن الهاتف المحمول وجهاز الحاسوب الخاصّ بها، وهذه مصروفات مستحدثة ألقت عبئًا إضافيًا على عاتقها في الشهور الأخيرة خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، أُضيفت إلى قائمة مصاريف البيت ما بين مأكل ومشرب.

لكن، خلال الحرب الإسرائيلية وفي ظلّ الغلاء الفاحش الذي شهده السوق خلال فترة المجاعة التي شهدها شمال غزة (مارس 2024- يناير 2025)، لم تستطع ضحى أن تفي بالتزاماتها تجاه أسرتها مع راتب كراتبها المتواضع.

 وفي الأشهر الأولى للحرب توقفت ضحى عن العمل بشكلٍ تام وبقيت مدة أربعة شهور لا تتقاضى راتبًا، وعن ذلك قالت، "تفاقمت معاناتي النفسية وسط حاجتي الماسّة للمال في ظلّ الظروف المأساوية التي نمر بها، فبعت من مصاغي الذهبية أكثر من قطعة حتى أستطيع الإنفاق على عائلتي".

بعد مرور أربعة أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، تلّقت ضحى دفعة مالية من العمل الخاص بها قدرها (600) دولار، عن الأشهر التي لم تعمل بها؛ مما ساعدها قليلًا على شراء الطعام التي كانت بالكادّ توفره.

تضيف ضحى: "لم أكن اشتري أيٍّ من الخضار سواء البطاطا أو الطماطم عندما كانت تصل إلى (30) دولارا، وكنت أكتفي بشراء المعلبات التي كانت تصل لحوالي (6) دولارات، وأعتمد اعتمادًا تامًّا عليها، لكن الآن وبعدما أصبح يتراوح سعر غالبية الخضراوات ما بين (2_7) دولارات للكيلو الواحد، أشتريها ولكن ليس بشكلٍ متواصل كما الحال قبل الحرب".

عادت ضحى للعمل بعد أربعة أشهر من الحرب، وأصبحت تتلقى راتبها كاملًا ولكن تبعه مصروفات جديدة، فاضحت تحتاج يوميًا إلى حوالي دولارين لشحن اللابتوب، والهاتف المحمول، ودولار واحد لبطاقتي إنترنت يومية واحدة لحاسوبها والثانية لهاتفها، وتضطر أحيانًا لشراء عدد أكبر من البطاقات في اليوم الواحد من أكثر من شبكة إنترنت بمنطقتها نظرًا لتعطل وفصل الشبكات الدائم؛ مما يجعلها تضع في قائمة مصروفاتها اليومية (3) دولارات لبطاقات الإنترنت فقط، وشحن بطارية تستخدمها للإضاءة بتكلفة دولارين، عدا عن الأمور اللوجستية التي تضطر تأمينها لعملها.

في القائمة الأولية التي تخطّها ضحى على دفترها تضع الآن مبلغ مئتي دولار للطعام والشراب، وهذا مبلغ غير ثابت بفعل تغير أسعار البضائع في الأسواق، فيما تؤكد أنّه لا يكفي احتياجاتها، وتخصص لتأمين المياه المحلاة دولار واحد يوميًا، ومياه الغسيل والاستحمام تصل إلى (20) دولارا أسبوعيًا، وفي أشهر عديدة تظهر لها مصروفات جديدة كمرض أحد أطفالها فتضطر لدفع مبلغ إضافي قدّرته تقريبا (30) دولارا ولكنه مصروف متأرجح.

نزحت السيدة من منزلها ما يقارب أربع مرات وتعتبر نفسها محظوظة أمام ما عانته الأسر الأخرى جرّاء النزوح، على الرغم من أنّها اضطرت خلال كل نزوح لدفع (80) دولارا مصروفات للنقل من بيتها في النصر غرب غزة إلى بيت أهلها الواقع في شارع النفق وسط مدينة غزة؛ مما فاقم معاناتها المادية، إضافة إلى أن مصروفات التنقل اليومية بالمواصلات تضاعفت لتصل (4) دولارات بعدما كانت لا تتجاوز الدولار.

تؤمن ضحى بالمثل القائل "القرش الأبيض ينفع باليوم الأسود"، لذلك ما قبل الحرب كانت تدّخر من راتبها مبلغًا قليلا جدًا، وبقت لسنوات تتبع نظام الادّخار، ولكنها بالحرب اضطرت لإنفاق مدخراتها التي تقدّر بـ (3000) دولار، والآن هي لا تملك سوى راتبها الشهري الذي لا يكفي لسدّ احتياجاتها.

وأوضحت أنّها تحاول تدبير مصروفاتها المتزايدة قدر المستطاع، وفي ظلّ توفر الأطعمة التي حُرِموا منها لأكثر من عام، تحاول تعويض أطفالها بشراء الحاجيات التي يحتاجونها، ومع توفر بضائع جديدة في الأسواق لا سيما شمال غزة مع بداية الشهر الحالي، وفرت ضحى لأطفالها مستلزمات خاصة فصرفت (300) دولار بالكامل.

الآن، بعد أن توقفت الحرب تحاول ضحى تنظيم مصروفاتها أكثر ولكن لا تستطيع، ولكنّها تسعى لأن تسدّ الديون التي تراكمت على عاتقها، إذ كانت تضطر للاستدانة من شقيقتها مبلغا يقدر بـ (100) دولار شهريًا لتتمكن من شراء أساسيات قوت أسرتها.

وفي نهاية حديثها، عبّرت عن خوفها من عودة الحرب مرّة أخرى، فينقطع الإنترنت بشكلٍ تام، وبذلك لا تستطيع العمل وتوفير احتياجات عائلتها مما يضعها في مأزقٍ كبير.

في الإطار، قال المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر في حديث لآخر قصة: "إن تضخم الأسعار في الحرب بشكل جنوني أدى لكارثة وفجوة كبيرة بين راتب الموظف وأسعار الأسواق، وهذا تسبب في أزمة غير مسبوقة خصوصًا في ظل عدم مجاراة القطاع الحكومي أو الخاص للأسعار بصرف مبلغ طارئ للموظفين".

وأوضح أن موظفي العمل عن بعد يعانون من عدم أمان وظيفي، وتذبذب في المدخول الشهري، وإن اضطروا للعمل تضاف على عاتقهم مصاريف جديدة لم تكن بالحسبان لا تتناسب مع رواتبهم.

وأكّد أبو قمر أن العاملين عن بعد لهم دور كبير في دعم الاقتصاد المحلي بشكل عام، كونهم يدرّون العملة الصعبة على الاقتصاد، إذ يتسبب دخولها في زيادة الناتج المحلي القومي الإجمالي، وبالتالي فإنّ الوظيفة لا تفيد صاحبها فحسب بل تسهم في نمو الاقتصاد الكلي وتعطي مؤشرات جيدة للمدخول العام، والتوقف عن العمل يؤدي لضرر كبير على الاقتصاد المحلي.

ونصح أبو قمر العاملين عبر الإنترنت بالبحث عن وظيفة تتمتع بأمان وظيفي أكثر، وتوقيع عقود مع الجهة المشغلة لضمان معرفة مدة العمل الزمنية الثابتة دون انقطاع، والتحرك المالي وفقًا لها، داعيًا لإدارة المخاطر من الناحية الاقتصادية بادخار 15% من الراتب الشهري تحسبًا لأي طارئ، واتباع سياسة الازدواج الوظيفي حتى في حال فُقدت وظيفة يجد الموظف الثانية.

وضحى واحدة من آلاف العاملين عن بعد في قطاع غزة، الذين يرتكز عملهم بالدرجة الأولى على شبكة الإنترنت والكهرباء ومعداتهم المكونة من هواتفهم المحمولة، وجهاز الحاسوب الشخصي، وهي تعتبر من المحظوظين الذين يدخل عليهم دخل شهري طالما أنها على رأس عملها، على الرغم من تحدّيات استمرارها في العمل بسبب ضعف شبكات الانترنت ومشكلات العمولات التي تضطرها للاعتماد على المساعدات الإنسانية من حينٍ لآخر.

 

مواضيع ذات صلّة:

فاتورة مصروفات نازحة فلسطينية مغتربة

فاتورة مصروفات ممرضة تحت الحرب