في إحدى زوايا حي النصر المدمّر غرب مدينة غزة، تجلس نور، ذات العشرين ربيعاً، على الأرض قرب موقدٍ أشعلته لصناعة القهوة. ينساب خيط الدخان برفقٍ نحو السماء المّلبدة برائحة البارود، بينما تنبعث من سماعات هاتفها الصغيرة أغنية فيروزية قديمة.
تتمايل نور برأسها بخفة وكأنّها تحاول أن تغرق في عالم بعيد عن صخب الانفجارات وضجيج طائرات الاستطلاع. قالت الفتاة وهي تتأمل فنجان قهوتها بعد أن سكبته بخفةٍ: "الموسيقى هي ملاذي، هي الشيء الوحيد الذي يجعلني أتنفس وسط كل هذا الدمار، حين أضع السماعات، أسمع السلام الذي افتقدناه، ومع ذلك أنتفض بين حين وآخر على صوت انفجار يهز الأرض تحت أقدامي".
نور ليست الوحيدة التي تحاول الانعزال عن فوضى الحرب والخوف والهروب من القلق، باللجوء إلى الموسيقى، هناك يوسف عبد الرحمن، ذاك الشاب الثلاثيني الذي يعمل متطوعاً في توزيع المساعدات الإغاثية، يضع سماعاته البيضاء كلما سنحت له فرصة شحن بطاريتها؛ ليهرب من صوت الموّلدات الكهربائية وصيحات الطوابير الطويلة على صناديق المعونات.
يقول يوسف مبتسماً رغم مأساوية الواقع المحيط وتعطلّه القسري عن العمل بفعل الحرب: "أستمع إلى أغاني أم كلثوم وعبد الحليم، فهي تأخذني إلى زمنٍ لم أعشه، لكنه يبدو لي جنة مقارنة بالواقع الذي نعيشه الآن في غزة في ظل هذه الحرب الطاحنة".
يحكي يوسف كيف ينسى للحظات همه وينحي الحزن جانباً، حيث يستثمر أوقات الهدوء النسبي بعد أن يعود إلى البيت، ليجد في الجلوس على شرفة منزله الذي أصابته أضرار بالغة نتيجة القصف، ملاذاً حيث يحتسي كوب شاي، والموسيقى تملأ الهواء من حوله وبخاصّة مع دخول ساعات الليل التي تبدو أكثر قلقاً ورعباً بالنسبة للسكان المدنيين.
وأضاف الشاب وهو ينظر إلى جالونات المياه التي اصطف الناس لجمعها أسفل البناية قبل المغيب: "أحياناً أشعر أن فعل الاستماع إلى الموسيقى بحد ذاته جرمًا في هذا التوقيت الذي تُحصد فيه الأرواح كل دقيقة تقريباً، غير أن استمرار التفكير في هذا الواقع يجعلنا يشعر بالإحباط ويدخلنا في دوامة نفسية سيئة، لذا أهرب إلى الموسيقى، فهي تشبهنا إلى حدٍّ كبير، تحاول الصمود، ولكن أحياناً يخنقها القصف".
على الجانب الآخر من القطاع، تجلس أماني، الطالبة الجامعية، بجوار شقيقتها الصغرى داخل خيمتهما الواقعة غرب محافظة خانيونس جنوب القطاع، بينما تغنيان ككورال متألق، أغنية المطربة اللبنانية جوليا بطرس، "نرفض نحنا نموت.. قولولن راح نبقى".
تحاول الفتاتان كسر صمت الليالي الثقيلة بشيء من الأمل. قالت أماني وهي تنفض الغبار عن غيتار مهمل كانت قد جلبته لتعلم الموسيقى قبل اندلاع الحرب بأشهر: "اعتدنا أن نجتمع كل مساء لنغني سوياً، كان صوت الموسيقى يغطي على ثلاثية الحزن والحصار والفقر التي كانت تطغى على غزة قبل اندلاع الحرب، لكنها الآن أصبحت رفاهية أكثر من اللازم، أخاف أن أعزف، فقد يرى الجيران ذلك ضعفاً أو تجاهلاً للألم المشترك".
تضع الفتاتان غطاءً من الصوف فوق جسديهما النحيفتين، ومع ذلك لا تزالان تشعران ببرد كانون يتسلسل إليهما من ثقوب الخيمة المصنوعة من النيلون. ويحاولن تجاهل هذا الواقع بالكثير من الأغاني الوطنية والقليل من الأغانِ الرومانسية، التزاماً بالأعراف المجتمعية التي تنظر إلى الموسيقى بوصفها تابو.
في ظل هذا الواقع القاسي، يؤكد خبراء علم النفس أن الموسيقى يمكن أن تكون علاجاً فعالاً للتخفيف من التوتر والحد من القلق. تقول المختصة النفسية ريهام عياد، إن "الموسيقى ليست مجرد ترفيه، بل هي وسيلة علاجية أثبتت الدراسات الحديثة فعاليتها في تحسين المزاج وخفض مستويات الكورتيزول، وهو هرمون التوتر".
وتضيف المختصة عياد: "في الغالب يفضل الناس في مثل هذه الأوقات إلى الأغاني القديمة وهي عمليا ليست اختيارات عشوائية، إنها تعيد لهم الإحساس بالأمان والارتباط بالماضي والذكريات الجميلة المحفورة في أذهانهم ويتوقون شوقاً للعودة إليها، كالعيش في مسكن آمن وتناول الطعام الذي يحبون وممارسة رياضاتهم المفضلة وتعليمهم والتخطيط لمستقبلهم".
وأوضحت أنه في سياق الحرب، تصبح الموسيقى وسيلة للنجاة النفسية، وكأنها جسر يعبر من خلاله الناس إلى عالم أكثر هدوءاً.
ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في عام 2023، فإنّ 70% من سكان غزة يعانون صدمات نفسية متعلقة بالصراع، بينما يعتبر 40% من الشباب أن الأنشطة الفنية والموسيقية وسيلة فعالة للحد من القلق والاكتئاب. ومع ذلك، لا توجد برامج رسمية لتوفير العلاج بالموسيقى في غزة، على الرغم من الحاجة الملحة لها في الوقت الراهن.
على باب خيمته يجلس الشاب أمجد، يأخذ قسطاً من الراحة بعد عودته للتو من مركز توزيع المساعدات حاملاً طرداً غذائياً. ينقر أمجد (22عاماً) بيديه على صندوق المعونة الكرتوني، بإيقاع يتماشى مع أغنية للمطرب الفلسطيني محمد عساف "أنا دمي فلسطيني". وبينما كان يغني بصوت عالٍ، جذب انتباه الأطفال الذين كانوا يصفقون ويحاولون تقليده.
قال أمجد الذي أنهى تعليمه الجامعي في تخصص اللغة العربية: "حتى في أقسى اللحظات، يمكن للأغاني أن تصنع ضحكة من قلب الحرب. إنها تجعلنا نشعر بأننا ما زلنا بشر".
يشير الشاب الذي أثقل السهر عينيه المتعبتين نتيجة قصف ليلي قرب خيام نزوحهم: "أتمنى أن أعيش يوماً في سلام، أن أستيقظ على صوت الطيور بدلاً من أصوات الانفجارات، أريد أن أذهب إلى شاطئ البحر بحرية، دون أن أخاف من صاروخ قد يمزق لحن الحياة".
وختم حديثه بالقول: "الحرب علمتنا أشياء كثيرة أهمها فكرة مكابدة أعباء الحياة وتحمل المسؤولية في توفير الاحتياجات الأساسية كالماء والغذاء والحطب والوقود، لكننا لا ننسى أن نحلم، أحلم بأن أعود لأعيش حياة بسيطة، حيث تكون الموسيقى صوتاً للفرح لا للهروب من الواقع".
رغم الحرب، تظل الموسيقى في غزة رمزاً للإنسانية، والتشبث بالأمل في وجه الدمار والفقد، ففي كل لحن يعزفه شاب أو أغنية ترددها فتاة، ينبض قلب غزة بالحياة. قد لا توقف الموسيقى القذائف، لكنها تمنح السكان وبخاصة الشباب القوة لمواصلة العيش، وكأنها تقول لهم: "حتى وسط الدمار، هناك نغمة تستحق أن تعزف".
موضوعات ذات صلة:
الدراما المصرية ملاذاً في ليال حرب غزة
الحرب لم تخمد الموسيقى: يا ولدي قد مات شهيداً
عن تجربة النساء في عمر الخمسين: نحب أم كلثوم ولا نسمعها!
الإبداع المقيد: موسيقى غزة تحارب القيود
الموسيقى علاج نفسي