يشق غالبية سكان قطاع غزة، طريقهم عبر مياه الصرف الصحي التي تغرق غالبية الشوارع، ويقضي الكثير من النازحين حاجتهم داخل الخيام في حفر امتصاصية، دون دورات مياه مؤهلة، الأمر الذي يضاعف المخاطر الصحية والبيئة على حدٍ سواء.
يقول السكان الذين يرزحون تحت لظى الحرب لما يزيد عن 15 شهراً، إن مياه الصرف الصحي التي تحيط بهم هي مجرد واقع آخر لا مفر منه، مثل مخاطر القصف وآلام الجوع.
ووفقًا لمختصين في المجال البيئي فإنّ تدفق المياه العادمة في الشوارع على مقربة من المناطق السكنية أصبح أحد أبرز التحديات البيئية والصحية التي تعصف بالقطاع.
كما امتدت آثار هذه الكارثة الإنسانية البيئية إلى تأثيرات اقتصادية بالغة في الأراضي الزراعية التي كانت تشكِّل مصدرًا أساسيًا للغذاء في القطاع، فأصبحت غير صالحة للزراعة بسبب تلوث المياه العادمة. بالإضافة لتأثيراتٍ أخرى على النظام البيئي البحري إذ تسبب التسرب المستمر لمياه الصرف الصحي إلى البحر بدون معالجة، في تدمير وتلوث البيئة البحرية بشكل تدريجي.
تسرب إلى الخيمة
المواطن الفلسطيني أيمن حمادة (47 عامًا) كان يقطن في خيمةٍ في منطقة دير البلح وسط قطاع غزة، وبدأ مؤخرًا رحلة نزوحٍ جديدة لكن هذه المرة ليس بسبب أوامر الإخلاء الصادرة عن الاحتلال؛ بل لما يعانيه من تسرب المياه العادمة إلى خيمته، وأثرت على صحة أطفاله، وعلى الأرض الزراعية التي تتوسطها خيمته، ما أدى لمقتل المزروعات أيضًا.
"عانيت من كل النواحي، لم أحتمل الرائحة الكريهة التي لوّثت الهواء كله، تفاقمت الأزمة مع بداية الشتاء ولم نجد لها حلولًا فما كان منّي إلا البحث عن مكان آخر لا تطوله الروائح الكريهة ولا الحشرات"، يقول حمادة الذي نزح إلى الوسطى من منطقة الشيخ رضوان شمال قطاع غزة، ثم عاد ونزح إلى خانيونس هربًا من مياه الصرف الصحي، ولكنه لم يسلم من مشاكل النازحين في الخيام التي تخلو من البنى التحتية بشكلٍ عام.
وعلى الرغم من سوء وضع المكان الذي هرب منه الرجل إلا أنّه لم يبقَ شاغرًا، فجاره "أبو علي" ذاك الرجل الستيني أقام فيه خيمةً لابنته سلمى (*) النازحة من النصيرات، يقول لـ "آخر قصة": "لا يتوفر أماكن للنازحين، فالعدد في الجنوب كبير جدًا مقارنة بالمساحة الذي يدعي الاحتلال أنها آمنة، لذلك لا رفاهية في اختيار مكان آخر بعيدًا عن مياه الصرف الصحي".
نزحت ابنة أبو علي، من بيتها الذي تضرر بشكلٍ شبه كامل بفعل عمليات القصف العنيفة؛ بحثًا عن الأمان، لكنها منذ وصلت تعاني تأثيرات المياه العادمة، تُعقّب سلمى: "أوصي أطفالي ألا يمشوا في الحفرات المغمورة بالمياه الملوثة، ومع ذلك يعودون في مرات عديدة مبللين بالمياه العادمة بعد انزلاقهم في تلك الحفر"، فهل من سبيل للتخلّص من المياه العادمة؟
خروج عن الخدمة
يُجيب المختص البيئي سعيد العكلوك في حديثٍ لـ "آخر قصة" بأنّ العملية التسلسلية للتخلص من المياه العادمة أضحت غير موجودة، إثر تدمير الاحتلال للشبكات المختصة بنقل مياه الصرف الصحي من المنازل إلى محطات المعالجة من خلال محطات الضخ، فدمر الأنابيب الموصِلة لهذه المحطات وأخرج ثلاث محطات مركزية عن الخدمة في شمال غزة والبريج وسط القطاع وخانيونس جنوبًا، إما بالتدمير الكلي أو الجزئي.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، تعرّضت المرافق الحيوية والبنى التحتية في قطاع غزة لأضرارٍ جسمية؛ مما سبَّب تعطيلًا واسعًا في أنظمة المياه وشبكات الصرف الصحي.
وبسبب القصف الإسرائيلي الدامي في غزة، انهارت قدرة الهيئات البلدية على التخلص من مياه الصرف الصحي أو معالجتها، وقد أدى ذلك إلى تفاقم الظروف المعيشية القاتمة وزيادة المخاطر الصحية لمئات الآلاف من الأشخاص، المحرومين من المأوى والغذاء والدواء، وفق منظمات الإغاثة.
أمام هذا الواقع، وصف حقوقيون التدمير الإسرائيلي الحاصل في الموارد الطبيعية الفلسطينية بأنّه عقبة أمام تحقيق العدالة المناخية التي لا يمكن فصلها عن العدالة الاجتماعية والسياسية في ظلّ غياب حقوق الإنسان.
إبادة بيئية
وفي التفاصيل، دمر الاحتلال الإسرائيلي نحو 80-100 كم طوليًّا من أنابيب تصريف المياه العادمة، بشكل جزئي أو كلي، و45 مضخة، ومحطات المعالجة المركزية الخمس، إضافة إلى تدمير ما يزيد عن 5 آلاف متر طولي من شبكات تصريف المياه السطحية ومياه الأمطار، وذلك بحسب تقرير "إبادة البيئة" الصادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان في سبتمبر الماضي.
حاول النازحون بجهودٍ عشوائية التخفيف من أزمة المياه العادمة بأنفسهم، عن طريق تصميم حفر امتصاصية لتسريب المياه، لكنّها لم تكن مجدية، وفقًا لما أشار إليه العكلوك، بقوله: "المعضلة أنّ هذه الحفر قريبة من الخزان الجوفي فالطبقات رملية وهي ذات نفاذية كبيرة إذ أنّ إمكانية تسرّبها للخزان الجوفي كبيرة، خاصة في ظلّ استمرار الانفجارات التي تزيد فرصة وصول المياه الملوثة للخزان أيضًا".
تسببت تلك المياه الملوثة المليئة بالفيروسات والمخلّفات، بحسب العكلوك، في تلوث مياه الشرب والاستعمال اليومي بنسبة وصلت إلى 40%؛ ما أدى إلى ارتفاع نسب الإصابة بالأمراض المعدية كالكوليرا والأمراض الجلدية.
أما تأثيرها على الأراضي الزراعية يقول العكلوك: "إنّ تسّرب مياه الصرف الصحي للتربة أدى إلى إغلاقها بشكلٍ تام بسبب احتمالية النفاذية العالية لطبقات التربة، ومن ثم تصبح إمكانية الزراعة فيها معدومة، كون البكتريا والملوثات يمكن أن تنتقل للإنسان من خلال الثمار المزروعة".
ومع تزايد أعداد النازحين في الخيام المقامة على شاطئ بحر غزة، تسرّبت المياه العادمة إلى البحر بنسبةٍ عالية؛ ما أدى إلى تدمير البيئة البحرية، إذ تلّوثت بالفيروسات والبكتيريا الممرضة فأصبحت بيئة خصبة لنواقل الأمراض.
جنوباً وشمالاً
لم يتوقف تأثير تسرّب المياه العادمة على النازحين في الخيام جنوب قطاع غزة، بل وصل إلى قاطني البيوت المتضررة بفعل القصف شمال القطاع. ففي مخيم الشاطئ تجلس أم آدم (34 عامًا) لتعبئة جالونات المياه في مدخل بيتٍ نزحت إليه، فيما تتسلل إلى أنفها رائحةٍ كريهة منبعثة من المياه العادمة المُتسرِّبة إلى الشارع.
تقول السيدة إن الروائح الكريهة تتسرّب إليها في الطابق الثالث حيث تقطن، كما تشكو معاناتها خلال الشتاء والمطر، بقولها: "مع أول منخفض جوي مصحوب بالأمطار، غمرت المياه الشارع فأغلقته بالكامل، واختلطت مياه الصرف الصحي مع مياه المطر، وحتى بعد انتهائه أصبحنا نقضي الطريق قفزًا عن تجمّعات مياه الصرف الصحي، ناهيك عن انتشار حشرة البعوض".
وفي ظلّ تجمع المياه العادمة وانتشار الحشرات والقوارض ترفض أم آدم خروج أبنائها للشارع للعب مع أبناء الجيران، خاصّة بعد إصابتهم بنزلاتٍ معوية، وضعف مناعتهم بشكلٍ عام إثر سوء التغذية، بينما ابتكر الأطفال في الخارج حلولًا تمنع تدفق المياه الملوثة عليهم وهم يلعبون "البنانير" فجلبوا الرمل وبعض الحجارة في طريق المياه المتدفقة؛ علّها لا تتسرب إليهم.
تحت هذه الظروف، يتجلى عجز السلطات المحليّة عن وضع حلول عملية مؤقتة لهذه الأزمة، فيما أشار مدير الصرف الصحي ببلدية غزة محمد الإمام في تصريحٍ صحافي سابق إلى أنّ البلدية تحاول حلّ الأزمة الكارثية التي حلت بالبنية التحتية لشبكات الصرف الصحي، من خلال طلب السماح بإدخال مواد أساسية لإكمال صيانة خط الضخ الأساسي وتفريغه بشكلٍ فوري، فيما يحتاج هذا العمل أسابيعٍ عدّة في ظلّ عدم استلام البلدية الوقود الكافي لتشغيل مضخات الصرف الصحي.
انتهاك قانوني
يُعد تدمير البنى التحتية انتهاكًا للمواثيق الدولية القانونية التي تُجرِّم المساس بمصادر المياه وأنظمة الصرف الصحي وهو ما يؤكده المحامي طارق الزر، استنادًا إلى اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية في الأمم المتحدة وبحسب المادة 22، فإنّ الحقّ في الصحة مكفول ويمتد إلى المقومات الأساسية للصحة بما فيها الحصول على مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي.
كما يضمن البرتوكول الإضافي للاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان المتعلق بالحقوق الاقتصادية وتحديدًا المادة 11، للإنسان العيش في بيئةٍ صحيّة والحصول على الخدمات العامة الأساسية، وبحسب الزر فإنّ الاحتلال ينتهك هذا الحق باستهدافه لكل المرافق الحيوية.
ووفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، يُحظر على دولة الاحتلال تدمير الممتلكات التي لا تقتضيها العمليات العسكرية، ويجب حماية البنى التحتية الحيوية مثل شبكات المياه والصرف الصحي.
كما ويحظر على دولة الاحتلال أيضًا في المادة 53 من الاتفاقية تدمير أي ممتلكات خاصة بالدولة أو بالسلطات العامة أو بالمنظمات الاجتماعية والتعاونية. فيما يُصنَف فعل الاحتلال "تدمير متعمد للممتلكات" على أنه انتهاك صارخ للقانون، وهو من الأفعال المحظورة بموجب القانون الدولي الإنساني، ويُعتبر من الأعمال التي تندرج تحت "العقوبات الجماعية" و"الضرر البيئي"؛ مما يعرض حياة المدنيين للخطر ويضاعف معاناتهم.
وأمام ما عدّه حقوقيون انتهاكًا للعدالة المناخية، دعا مختصون بيئيون إلى ضرورة تضافر الجهود الدولية لإنقاذ الإنسان والبيئة في غزة، وتقديم الدعم المالي بتخصيص موازنات كبيرة لإعادة إحياء 500 كيلو متر من محطات الضخ التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي، وإدخال المعدّات لقطاع الصرف الصحي، والمواد الضرورية بما تشمله من كلور وفلاتر لمحطات التحلية.
في انتظار حلولٍ قد تأتي وقد لا تأتي يكافح الغزيون في معترك الحياة، ويعيشون بين أكوام النفايات ومياه الصرف الصحي الذي غزت شوارع القطاع، متمسكين ببقايا أمل أن توقف عجلة الموت عن الدوران وتعود إلى غزة أدنى مقومات الحياة الأساسية.
قضايا ذات علاقة:
تفشي النفايات: التهديد الصامت لصحة سكان غزة
مكبات النفايات في قطاع غزة: خطر يُحدّق بالبيئة والصحة
الصرف الصحي بغزة