قلبت الحرب على قطاع غزة، الأحلام التي خطها الشباب على دفاتر المستقبل، منهم مَن كان مستقرًا في عمله، وآخر كان يحلم بإكمال الدراسات العليا في تخصصه الجامعي، ومنهم من كانوا يخططون لسفرٍ قريب، أو شراء بيت أو سيارة. فجأة، تحوّلت هذه الأحلام العادية إلى أملٍ وحيد هو النجاة من الخطر فحسب.
قضى شباب غزة عامًا ونيف من الحرب يفكرون في همومٍ جديدةَ عهدٍ بهم، كتأمين احتياجاتهم اليومية بعدما فقدوا مصادر دخلهم. وما كان منهم وهم في فمِّ الموت إلا التفكير باختلاق فرص جديدة، فأجبروا أنفسهم على فتح مشاريعٍ صغيرة؛ بغيّة توفير قوت يومهم فقط، وسقطت خططهم السابقة في غياهب النسيان.
بحسب تقديرات وإحصاءات منظمة العمل الدولية، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإنَّ ما يقارب 507,000 وظيفة فُقِدت في كل فلسطين حتى أواخر يناير/كانون الثاني 2024، إثر الحرب المتواصلة على غزة.
كما أظهر البيان الذي صدر عن المنظمة وعُنوِن بـ: "تأثير الحرب في غزة على سوق العمل وسبل العيش في الأرض الفلسطينية المحتلة" أنّه 201,000 وظيفة فُقِدت في قطاع غزة، أيّ ما يُعادل ثلثي العمالة، فيما وصل معدل البطالة إلى 79% في القطاع بعدما كان 46% قبل الحرب.
فارس الغرباوي، واحد من الذين انتزعت الحرب منهم مصدر رزقهم بعد رحلة طويلة من البحث عن عمل وإثبات الذات، حاصلًا على بكالوريوس في هندسة أنظمة الحاسوب، وكان يعمل في مجال برمجة وتطوير مواقع الويب. يقول لـ "آخر قصة": " كنت أعمل عن بُعد مع شركات خارجية؛ لكن بسبب الحرب فقدت مصدر دخلي الوحيد".
لم يقتصر تأثير الحرب على العاملين في السوق المحلي فقط؛ بل امتد ليشمل العاملين عبر منصات العمل الحر الدولية، إذ تعطلّت شبكة الاتصالات والإنترنت في غزة بسبب تدمير الاحتلال للبنية التحتية للاتصالات، بما في ذلك أبراج الاتصالات الخلوية، ومكاتب مزودي خدمة الإنترنت، وشبكات الاتصال. بالإضافة إلى ذلك، لم يُسمح بإدخال الوقود اللازم لتشغيل مولدات شركات الاتصالات.
نتيجةً لذلك، وصلت الأضرار التي لحقت بقطاع الاتصالات إلى نحو 223 مليون دولار، وفق تقدير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بالتعاون مع وزارة الاتصالات والاقتصاد الرقمي.
هذا الانقطاع شبه الكامل في معظم مناطق غزة أدى إلى قطع الاتصال بين العاملين عن بُعد وأرباب عملهم، مما دفع بعض الشركات للاستغناء عن خدمات فريق كبير من الشباب في غزة. حاول البعض التكيُّف من خلال استخدام الشريحة الإلكترونية “esim”، وهي شريحة رقمية متصلة بالأقمار الصناعية تتيح الوصول إلى الإنترنت؛ لكن هذه المحاولات لم تكن كافية لإنجاز الأعمال، نظرًا لحاجة الشريحة إلى أماكن مرتفعة وضعف جودة الاتصال عبرها.
الكثير من العاملين في هذا المجال، لم تمنحهم الحياة رفاهية البقاء متعطلين عن العمل؛ بل انخرطوا في أعمالٍ لا تشبههم كثيرًا ولا تتلاءم مع ما يحملونه من شهاداتٍ وخبرات. وهو تمامًا ما حدث مع الغرباوي فتحوّل من مبرمجٍ في شركةٍ دولية، إلى عاملٍ على "بسطة" يبيع عليها بعض الأطعمة والمعلبات.
لم يستمر الغرباوي في هذا العمل كثيرًا، وتجاوزه إلى عملٍ آخر، يقول الشاب: "بعد تحسن وضع الإنترنت قليلًا في بعض مناطق مدينة غزة قررت استغلال وجود حاسوب لدي، أوصلّته بشبكة إنترنت ووضعت طاولة في الشارع وسط معسكر جباليا، وكتبت لوحة، "لتحميل الألعاب والمسلسلات والأفلام والبودكاست"، وبدأت العمل منذ ذلك اليوم في هذا الاتجاه".
لم تعرف غزة مهنة كهذه من قبل، ولكنها إحدى الأعمال التي أنجبتها الحرب، بالإضافة إلى غيرها كالعمل مدخل بيانات لتسجيل العامة على أنظمة الدعم الإغاثي التابع للمنظمات الدولية، (وهو ما يصطلح عليه بالتسجيل للكابونات)، وهذا العمل نتج عن انقطاع الإنترنت على مساحات واسعة من غزة.
أفرزت الحرب أيضاً مهن أخرى بالنسبة للشباب، كبائعي الأخشاب، باعتبار الخشب أضحت سلعة رئيسية في ظلّ حرمان السكان من غاز الطهي، إلى جانب عمل آخر هو إصلاح الأموال المهترئة والتالفة، بعد توقف عمل المصارف، وتآكل العملات مع التبادل اليومي.
تحت هذه الظروف، لم تقتصر الأزمة على تحول أنماط عمل الكثير من شباب غزة؛ بل امتدت إلى كونهم لم يستقروا في عملٍ واحد نتيجة عمليات النزوح المستمرة؛ الأمر الذي تسبب بفقدان الكثير من الوظائف والأعمال في مختلف القطاعات الاقتصادية؛ إذ أشارت تقارير صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن قطاع غزة يعمل حاليًا بطاقة إنتاجية قدرها 14% فقط.
في الإطار قالت الخبيرة في اقتصاد العمل في منظمة العمل الدولية آيا جعفر، إنّ الحياة الاقتصادية تدمّرت بشكلٍ شبه كامل في قطاع غزة. فيما أوضح تقريرٍ للمنظمة أنَّ قطاع غزة خسِر 90% من الوظائف في القطاع الخاص، أما القطاع العام وصل فقدان الوظائف فيه لما نسبته 15%، إضافة لخسارة الغزيين ممن يعملون في الأراضي المحتلة لوظائفهم أيضًا.
من جهةٍ أخرى، أضافت جعفر: "أنّ نحو 25% من الضحايا في غزة من الرجال في عمر العمل. وفقدانهم يعني خسارة قوى عاملة في المجتمع الغزي، وهذا يدلِّل على أنّ كل القطاعات الاقتصادية ستتأثر حتمًا بخسارتهم". فيما قدّر بيانٍ صادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن الجيش الإسرائيلي قتل حوالي 1.8% من سكان غزة، من بينهم 24% من فئة الشباب، 26% ذكورًا، و22% إناثًا.
في حي الرمال شمال شرق مدينة غزة، يجلس ناهض العجل صاحب "بسطة" الحلوى، بينما كان يعمل قبل الحرب شيف في "مطعم الصاج" براتب شهري ثابت، وفقد مصدر دخله تمامًا منذ الشهر الأول في الحرب.
يقول الشاب ناهض: "ساعدني فاعل خير بمبلغ مالي لشراء بضاعة والعمل في البيع والشراء لأحصل على مصروف يومي، فأنا أب لأربع بنات والمصاريف كثيرة في ظلّ الغلاء الذي نعيشه، ونحن بحاجة إلى مصروف يسد احتياجاتنا، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال العمل على بسطة في ظلّ اندثار فرص العمل".
يضطر الرجل يوميًا التوجه سيرًا على الأقدام من بيته في حي النصر غرب مدينة غزة، إلى بيت عائلته وسط حي الرمال، لأخذ طاولة العمل وبضاعته المكونة من حلوى متنوعة "غريبة، برازق، معمول، كعك، مصاص، شيبس"، والتوجه للشارع الرئيس لعرض بضاعته على المارة. يضيف: "لا أجلب بضاعة مرتفعة الثمن، فكل ما هو أبيعه يتراوح سعره ما بين واحد واثنين شيكل فقط، أحاول مراعاة الأوضاع المادية الصعبة التي يمر بها الناس".
عشرات الآلاف من الشباب أيضًا تغيّرت مسارات وأنماط عملهم، منهم صائب عيد، وهو صحافي ومصور ومحاضر في جامعة الأقصى، يقول لـ "آخر قصة": "فور بدء الحرب فقدت مصدر دخلي الوحيد، وبدأت الأوضاع تسوء خصوصًا بعد نزوحي من البريج إلى رفح، وازدياد مصاريفنا بشكل جنوني بعد غلاء الأسعار، فقررت إيجاد فرصة عمل بنفسي بعيدًا عن خطورة العمل الصحافي".
وهكذا بفعل الحرب، تحوّلت مهنة عيد من محاضر في كلية الإعلام إلى صانع حلوى العوامة، يقول أنّ الأمر لم يكن مخططًا له، إذ خطرت بباله الفكرة، فنفذها رفقة زوجته، وصنع الحلوى من المكونات التي كانت مؤنة إغاثية، يضيف: "صادفت على بسطة العوامة كثيرًا من طلابي وزملائي في المهنة، ومن المرات التي لا أنساها حين جاء طالب سابق يشتري مني ويناديني بـ دكتور، لقد أوجعتني كلمته وذكرتني بالذي مضى".
ومما لا شك فيه أنّ لتحول أنماط العمل على الشباب، خاصة أن كثيرًا منهم اضطروا للعمل في مهن لا تناسب مؤهلاتهم، تأثيرًا نفسيًا واجتماعيًا عميقًا، وهو ما تؤكده المختصة النفسية والاجتماعية جيهان حلس، إذ تشير إلى أن الكثير من الشباب الذين فقدوا أعمالهم جرّاء الحرب وأجبروا على ممارسة أعمال أخرى يعانون فقدان الهوية المهنية والإحباط نتيجة عدم تحقيق الطموحات، إضافة إلى القلق والاكتئاب بسبب غياب الاستقرار الوظيفي والشعور بالعجز عن تحسين أوضاعهم.
أما اجتماعيًا، يعاني هؤلاء الشبان من تراجع المكانة الاجتماعية وضعف العلاقات مع الأسرة والمجتمع، إلى جانب الإحساس بالعزلة وتغيير الأولويات نحو مجرد السعي للبقاء بدلًا من تحقيق الأهداف، وفقًا للمختصة حلس، التي أشارت إلى أنَّ هذه الآثار تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية؛ ما يجعل الدعم النفسي وإعادة التأهيل المهني خطوات ضرورية للتخفيف من حدة هذه الأزمة.
وبالعودة إلى المحاضر عيد، فلم يكن عمله في مجال البيع والشراء مدعاة للخجل أبدًا كما يؤكد هو، وقد تنقل بين عدة أعمال، منها بائع خبز في مخبز، وبائع بضائع متنوعة في الأسواق، وآخرهما بائع للعوامة، ولم ينتهي المطاف هنا فما زال يبحث عن عملٍ آخر بعد توقفه عن صنع العوامة نظرًا لغلاء مكوناتها وتأرجح الأسعار في الأسواق.
ماذا عن الأفق الذي يراه صائب لمستقبله؟ يجيب بتنهيدة: "تحوّلت خططي وأحلامي بالحرب بالكامل، وأُصبت بإحباط كبير، ولا أرى أي أفق هنا في ظلّ الخراب، كل ما انتظره الآن خبر وقف إطلاق النار، وفتح معبر رفح ليس للهجرة؛ بل لأنال فترة تعافي من هول ما شاهدناه، وأكمل دراسة الدكتوراه أيضًا".
ومن هنا ينبري سؤال، حول ماهية الجهود الدولية لإنقاذ ما أمكن إنقاذه في مجال سوق العمل لشباب قطاع غزة؟
في هذا الإطار، أطلقت منظمة العمل الدولية في غزة برنامج استجابة طارئة لدعم الغزيين بقيمة 20 مليون دولار، ولتمد يدَ العون للعمال الفلسطينيين الذي أفقدتهم الحرب مصادر دخلهم، وأعلنت عن خطة توظيف 1,245 عاملاً، وذلك بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لخلق فرص عمل للغزيين المتضررين من الحرب الدائرة حاليًا.
لكن هذه المبادرة على أهميتها لا تلبي الاحتياج الكبير بين أوساط شباب قطاع غزة، وهو ما أكّدته الخبيرة الاقتصادية آيا جفعر أنه من الضروري وضع خطة طارئة للتخفيف من آثار الكارثة الاقتصادية التي حلت على غزة، تكمن أولًا في وقف الحرب حتى يتمكن المختصون بالعمل الإنساني والتنموي بشكل أنجع وأكثر فعالية، وثانيًا يجب تكاتف الأطراف جميعًا للعمل سويًا لوضع خطط واستراتيجيات اقتصادية ناجعة لدعم النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل جيدة يقابلها أجر لائق وبيئة عمل مستقرة.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالغزيين، تشدد جعفر على ضرورة تنمية المهارات عند الشباب، فتقول: "نحتاج لبرامج تدريبية تهدف لتطوير مهارات الشباب الباحثين عن عمل، والانتباه أن تكون تلك المهارات تتناسب مع احتياجات سوق العمل".
البطالة غزة