"العالم لا يحسّ بنا، نحن نموت أمام الناس على مرأى العالم كله"، بهذه الكلمات الصادمة، وقفت وردة محمد أمام جثث شقيقتها وأفراد عائلتها الذين لقوا حتفهم في قصفٍ إسرائيلي شمال مدينة غزة. مرّت المجزرة التي أودت بحياة 8 أفراد، كخبرٍ عابر بين عشرات الأخبار المتداولة يوميًا عن أحداث الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي لم يتوقف دويِّها منذ أكثر من 450 يومًا.
ومع انتهاء لحظات وداعها لأحبائها، أضافت وردة (27 عامًا) بمرارة: "الأمر لا يتعلق فقط بشلال الدم المفتوح منذ اندلاع الحرب، وبغزة التي تحوّلت إلى كومة ركام، بل بصمت العالم الذي يحوّل أوجاع شعب بأكمله إلى مجرد أخبارٍ عابرة."
يعيش نحو مليونا ونصف المليون في غزة تحت وطأة القصف المستمر والحصار المفروض عليهم. ومع مرور الوقت، بدأت مشاعرهم تتراكم لتتحول إلى شعورٍ عام بالعزلة، والتجاهل من العالم الذي يبدو وكأنه يراقب المأساة لكنه لا يتفاعل معها.
وفي الوقت الذي يتداول فيه الإعلام مؤخرًا احتمالية التوصل إلى "وقف إطلاق نار"، تزداد وتيرة العنف، بينما ينشغل الناس في الخارج بالمفاوضات، متجاهلين الواقع المأساوي الذي يلاحق المدنيين على مدار الساعة.
مع مرور الوقت، بدأ الفلسطينيون في غزة يشعرون بخفوت التفاعل الدولي مع قضاياهم والإحساس بجحيم الحرب، التي خلفت عشرات الآلاف من القتلى والمصابين، وحطمت آلاف الأحلام وأقعدت جيلاً كاملاً عن التعليم، وآخرين تسببت لهم بالإعاقة الدائمة، ناهيك عن دمار المساكن، وانتشار الجوع والفقر والأمراض.
يرجع الناشط الإعلامي أحمد الأغا تضاءل هالة الضوء المثارة حول قضايا المدنيين في غزة، إلى الاعتياد على مشاهد القتل والدمار في ذهن الجمهور العالمي، مشيرا إلى أن بداية الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023 شهدت تعاطفا ومشاركة فاعلة من الشعوب العربية والغربية.
"لكن مع مرور الوقت بدأت الناس تعتاد مشاهد الدماء، وانخفضت وتيرة الاهتمام، أصبحنا مجرد أرقام، وأصبح القتل والدمار إحصاءات يتداولها الإعلام بشكل روتيني"، يقول الآغا.
فيما عبّرت وردة، التي فقدت عائلتها في القصف، عن خيبة أملها قائلة: "نحن بشر من لحمٍ ودم، ولكن هذا التجاهل لمشاعرنا يزيد قهرنا، فشعور بالإحباط يعمّ غزة، والناس تستهجن غياب الرد الفعل العالمي على واقع الحرب وظروف المدنيين".
أمام هذه الفردية، ترى المختصة النفسية فلسطين ياسين، أن ضعف التفاعل الإعلامي مع الحرب عزز شعور السكان بالعزلة والإهمال، ما أسهم في فقدان الأمل في حدوث انفراجة قريبة أو تحقيق عدالة دولية. الكثيرون بدأوا يشكّون في جدوى مطالباتهم بالحقوق أمام هذه الصمت الجماعي، مما أثر في صحتهم النفسية والاجتماعية، وأدى إلى تضخم مشاعر الغضب والإحباط.
تشير ياسين في الوقت نفسه، إلى أن هناك خطوات يمكن لسكان غزة اتخاذها لتعزيز قوتهم النفسية في مواجهة هذه التحديات، فنصحت أولًا، بتعزيز التضامن المجتمعي وتقوية الروابط العائلية، حيث تشكِّل الأسرة والمجتمع ركيزة أساسية في تقديم الدعم النفسي المتبادل. كما أوصت بطلب الدعم النفسي والاجتماعي من المؤسسات المحلية التي توفر موارد للمساعدة على التخفيف من المعاناة النفسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لسكان غزة التركيز على قصص النجاح والصمود التي تحققت رغم الصعاب، وهو ما يُعزز الأمل وسط موجات الحزن، حسبما قالت.
بموازاة السكان المدنيين، يشعر فريق من الإعلاميين/ات الذين يغطون وقائع الحرب طيلة هذا الوقت، بخيبة أمل كبيرة، حيث تُشير مراسلة تليفزيون سوريا، شروق شاهين، إلى أن عملها اليومي في قطاع غزة بات يشعرها أحيانًا بأنها تتحدث إلى فراغ. "في بعض الأحيان، يبدو أن لا أحد يصغي لما أتحدث به على الهواء، لكنني أواصل رسالتي لأن الناس هنا يحتاجون لمن ينقل معاناتهم"، تقول شاهين.
شهدت شاهين شخصيًا تحدّيات هائلة، مثل النزوح المتكرر بسبب القصف، حيث تقول: "في إحدى ليالي أكتوبر الماضي، اندلع حريق في خيام النازحين في مستشفى شهداء الأقصى. كنت في الخيمة نفسها، ونجوت بأعجوبة، لكنني عندما عدت في صباح الغد تخيلت جسدي يحترق في مكانه."
وفي هذا الإطار، أشارت المختصة النفسية ياسين أنه يمكن للإعلاميين تعزيز قوتهم النفسية أيضًا من خلال الحصول على تدريب في مجال التعامل مع الصدمات النفسية؛ مما يساعدهم على مواجهة الضغوطات التي يتعرضون لها يوميًا. ونصحتهم بالحرص على السعي للحصول على استراحة دورية لإعادة شحن طاقتهم النفسية.
في الأثناء عزز أستاذ الإعلام أحمد حماد، فرضية تلاشي الضوء الساطع على غزة عبر نشرات الأخبار، وقال إن وسائل الإعلام الدولية بدأت تهتم بشكل أقل مع طول أمد الحرب، مؤكدا أن الاعتياد على الأزمات الطويلة يسبب تبلدًا عاطفيًا لدى الجمهور، وهو ما يفسر تقليص التغطية الإعلامية وتراجع الاهتمام الدولي.
وقال حماد: "الإعلام يميل إلى تغطية الأخبار المثيرة على حساب الأزمات المستمرة، وهذا يجعل من أخبار قتل عشرات الأشخاص يوميًا خبرًا عاديًا"، يقول حماد.
ولأجل تجاوز الإحساس الشعبي بالوحدة، والإحباط الإعلامي من مستوى التفاعل، ينصح حماد باستخدام أساليب مبتكرة في السرد الإعلامي تركز على القصص الإنسانية والجوانب الاجتماعية للأزمات، كما أوصى ببتعزيز التعاون بين الصحفيين/ات والناشطين/ات عبر شبكات مشتركة، واستخدام وسائل الإعلام الرقمي لزيادة تأثير رسائلهم.
ويتفق الناشط الإعلامي أحمد الآغا مع هذا الرأي، ويشدد على ضرورة العمل على الحفاظ على تعاطف الجمهور وجذب اهتمامهم المستمر من خلال طرح قضايا جديدة، ومحاولة نقل الأحداث بصور مختلفة أكثر إبداعية.
وعلى الرغم من الإحساس المستمر بالعزلة حيال خفوت التعاطف الدولي، يبقى الأمل قائمًا في الاقتراب أكثر من تحقيق العدالة والإنصاف، وأن يحيد المدنيين عن ويلات الصراع، كي يرمم الناجون جراحهم ويستكملون حياتهم.
غزة خبر عاجل