يقضي الشاب الفلسطيني حسن بسام، في العشرينيات من عمره، صباحه في تقطيع الخشب لتأمين وسيلة بدائية للطهي على النار بعد أن منع الاحتلال الاسرائيلي إدخال غاز الطهي إلى شمال غزة منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023.
ورغم برودة الجو في يناير الحالي، إلا أن حسن كان يجفف العرق المنساب على جبينه، ويقول وهو يلهث: "لم أكن أتخيل يومًا أن يصبح إشعال النار بالخشب والمواد البلاستيكية جزءًا من حياتي اليومية".
وأضحى جمع الحطب والخرق البالية والمكونات البلاستيكية واشعالها واستخدامها وقودا لطهي الطعام، خيارا اجباريا بالنسبة لسكان غزة، الذين تحوّلت حياتهم إلى رحلة كفاح يوميو للبقاء.
ويتسبب إشعال النار باستخدام الحطب والمواد البلاستيكية في أضرار صحية خطيرة لسكان غزة، لاسيما أن نحو 700 ألف إنسان ما زالوا يرزحون تحت هذه الظروف القاهرة شمال قطاع غزة.
والأمر بالنسبة لحسن الذي تعطل عن العمل بسبب ظروف الحرب، فقد ازدادت حساسية العين لديه وبمجرد أن يبدأ الخشب بالاشتعال تذرف عيناه الدموع ويصيبه ألام يصعب تجاوزها بدون استخدام القطرات المسكنة.
لم تتوقف الأزمة الصحية عند ما أصاب الشاب "حسن" ومئات أخرين يفعلون الشيء ذاته، بل امتدت للعديد من المشكلات الأخرى، وهو ما أكّده جهاز الدفاع المدني في غزة، إذ قال في بيان سابق له: "إنَّ منع غاز الطهي من دخول شمال غزة ينذر بأزمة صحية وبيئية وإنسانية؛ إذ إنَّ إشعال النار بواسطة الحطب والفحم والمواد البلاستيكية، والذي ينبعث منهم غازات سامة، أدى إلى زيادة أعداد المصابين بأمراض الجهاز التنفسي".
ووفقًا للطبيب أحمد الربيعي، المتخصص في الأمراض الصدرية، ازدادت حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي بشكلٍ ملحوظ، حيث سجلت مشافي غزة مئات الإصابات بالتهابات الشعب الهوائية والتهابات رئوية حادّة منذ بداية الأزمة.
يقول الربيعي في حديثه لمراسلة "آخر قصة" : "الدخان الناتج عن حرق البلاستيك والخشب يحتوي على مواد سامة تترسب في الرئتين، ما يؤدي إلى أمراض مزمنة مثل الربو وأحيانًا السرطان".
كما أن النساء اللواتي يعانين من أمراض تنفسية مزمنة يواجهن خطرًا أكبر. يشير الربيعي إلى أن "الوقوف أمام النار لساعات يزيد من نوبات الربو الحادة ويؤثر بشكل مباشر على وظائف الرئة"، محذرا من أن الدخان الكثيف، خاصة في الأماكن المغلقة، يُنتج أول أكسيد الكربون الذي قد يسبب التسمم أو الوفاة.
ومن الآثار الكارثية التي نتجت عن استخدام الأخشاب كبديل لغاز الطهي، هي الحرائق التي قد تندلع في أيّ لحظة جرّاء استخدام النيران بطريقةٍ خاطئة في مكانٍ ضيق. إذ يفتقر كثيرون إلى مساحات مناسبة لإشعال النار وبخاصة في ظل الدمار الهائل الذي طال المباني، مما يزيد من خطر الحرائق.
آخر هذه الحوادث كان في منطقة تل الزعتر شمال قطاع غزة، حيث اندلع حريق في شقة سكنية، وبحسب إفادة الدفاع المدني، فقد أنقذت طواقمه نساءً وأطفالًا بالكاد نجو من هذا الحريق.
حسن بسام وأسرته، كغيرهم من سكان شمال غزة يعانون من أزمة ضيق المساحة والحاجة لوجود مكان خاص منفصل خاص بكل عائلة لتكسير الخشب والطهي على النار التي يصاحبها الدخان، علماً أن هناك العشرات من المخيمات التي تأوي نازحين تفتقد تماما إلى التهوية، مما يعقد من معاناة قاطنيها.
يقول بسام لـ "آخر قصة": "لا يوجد لدي مساحة واسعة لتكسير الخشب بأريحية، بين شقتي والأخرى التي تقابلها متسع صغير استخدمه للتكسير، ولوضع صفيحة من التنك نستخدمها في الطبخ، كنا في البداية نطهو الطعام في الشُّرفَة لكن الدخان يملأ الشقة برائحة الخشب والبلاستيك المحروق ويُتعبنا، فاضطررنا للقيام بالأمر خارج أسوار الشقة التي تحطمت نوافذها بفعل القصف".
ومن صنوف المعاناة اليومية لهذه الأزمة أيضًا هو الغلاء الباهظ حتى الولاعات أصبحت عبئًا ماديًا إضافيًا على العائلات؛ ما دفع البعض إلى استخدام أعواد الكبريت كبديل أقل تكلفة، ولكنها تضاعفت مع الوقت. بالإضافة إلى ارتفاع ثمن الحطب الذي وصل إلى 4 شواكل للكيلو الواحد؛ مما اضطر الناس للبحث عن بدائل، لاسيما الأسر التي تعاني انعداما في مصادر الدخل.
لذلك، وتخفيفًا للعبء المادي من شراء الخشب، فكَّرت السيدة عواطف حسن التي نزحت من شمال مدينة غزة إلى شقة صغيرة بمخيم الشاطئ في بدائل، ولكنها لم تجد سوى حبيبات البلاستيك "المجروش"، (بلاستيك مقطع إلى حبيبات صغيرة) تستخدم في إشعال المواقد.
ومع ذلك، لا تزال تكابد السيدة عواطف عناء اشعال الموقد، على اعتبار أن مثل هذه الحبيبات لا يمكنها أن تصنع ناراً حامية تتلاءم مع إعداد وجبة حساء العدس على سبيل المثال. تعبر هذه السيدة عن استيائها من اتساخ يديها بشكل دائم، وقالت: "أحيانًا أتمرد على إشعال النار وأخذ راحة من الطهو ليوم واحد، ليس فقط لتوفير الحطب، ولكن أيضًا للحفاظ على صحتي التي تدهورت بسبب الدخان، ناهيك عن بشرتي التي أصيبت بالحبوب".
ولم يتوقف الضرر من إشعال النار على الجانب الصحي فحسب، بل تسبب في أزمة بيئية خصوصًا بعدما أُرغِم الغزيون على قطع الأشجار للحصول على الحطب؛ مما أدى إلى تدمير الغطاء النباتي. المهندس البيئي نزار الوحيدي يؤكد أن غزة فقدت نحو مليونين ونصف شجرة، مما تسبب في تدهور التربة وارتفاع نسب التلوث.
يقول الوحيدي: "قُطِعت كافة أنواع الأشجار المعمرة والزينة وغيرها الكثير، مما أدى لفقدان مصدر الأكسجين المنقي للهواء، وتوقف امتصاص ثاني أكسيد الكربون، فبموت النباتات يُفقد النشاط الحيوي في التربة".
وأوضح الوحيدي أننا نتعرض لأكبر مأساةٍ بيئية في تاريخ غزة، ومؤخرًا، حذرت بلدية غزة من الانهيار البيئي الذي يعاني منه قطاع غزة جرّاء الاعتماد على الوسائل البدائية في الطهو، والذي قد تتوسع آثاره لتصبح أزمة إقليمية، مؤكدة أن جزء كبير من الغطاء النباتي دُمر، وهو الذي كان مصدرًا للتقليل من التلوث وتحسين جودة الهواء.
في الإطار، عقب برنامج الأمم المتحدة للبيئة على التدهور البيئي في غزة إثر العدوان الإسرائيلي على غزة، بالقول: "تتعرض بيئة غزة لحرب لم يسبق لها مثيل، إذ ارتفعت نسب التلوث بسرعة في المياه والتربة والهواء، وخلفت أضرارًا لا يمكن تجاوزها وإصلاحها للنظم البيئة الطبيعية".
كما يؤكد المختص البيئي الوحيدي على أنَّ الممارسات المتبعة الآن في إشعال النار سيكون لها آثارها على الإنسان والنبات والحيوان، حيث الاعتماد على إشعال المواد البتروكميائية، ينتج عنها دخان كثيف يزيد من حالة التلوث في الهواء، مما يؤدي لاحتمال الإصابة بأمراض كسرطان الرئة.
مع استمرار العدوان، يحذر المختصون من أن الأزمات الصحية والبيئية في غزة ستتفاقم إذا لم تُتخذ إجراءات فورية لإنقاذ الوضع. يقول الوحيدي: "يجب وضع خطط عاجلة للتعافي بعد انتهاء العدوان، تشمل إعادة تشجير المناطق المدمرة وتقليل الاعتماد على الوسائل البدائية للطهي".
إلى جانب ذلك، يرى حقوقيون أن ما يقوم به الاحتلال الإسرائيل من إجراءات عقابية جماعية للسكان المدنيين في قطاع غزة، مثل منع إدخال غاز الطهي ومواد أساسية أخرى، يمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والمواثيق الإنسانية. وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، يحظر استخدام العقاب الجماعي ضد السكان المدنيين، حيث يُعتبر هذا الإجراء غير قانوني وغير إنساني.
على الصعيد الدولي، تواصل منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات دولية دعواتها لتحسين الظروف المعيشية لسكان غزة. وقد دعت الأمم المتحدة مرارًا إلى ضرورة السماح بإدخال الإمدادات الأساسية ورفع الحصار المفروض على القطاع. كما شدد برنامج الأمم المتحدة للبيئة على أهمية معالجة التدهور البيئي في غزة باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الاستجابة الإنسانية.
في ظلّ كل هذا، يبقى أمل الغزيين الوحيد هو انتهاء الحرب وممارستها ضدّ المدنيين التي تتنافى مع كافة المواثيق الدولية، ويأملون بعودة الحياة إلى طبيعتها، لعلّهم يتنفسون هواءً نقيًا بعيدًا عن دخان الحرب والنار.