في لغة الأرقام كانت الإحصائية الأولى في نهاية أكتوبر 2023 لعدد النساء الأرامل وفق هيئة الأمم المتحدة للمرأة هي 900 أسرة تعيلها النساء، بعد انقضاء عام وثلاثة شهور نحن أمام تجاوز لقدرة الرقم والتقدير والإحصاءات في ظلّ تزايد وارتفاع عدد الضحايا من الأزواج والذي يشكل عبئاً آخرًا على تحدّيات النساء في ظلّ حرب شرسة مازالت مستمرة، في ظل نزاع اجتماعي حتى أثناء الحرب والصراع المُوَجَّه ضدّهن في ظلّ غياب تام لمراكز الحماية المتخصصة بشؤون حماية النساء من وصاية، وحضانة، وتوفير المكان، والتخلي عن، والتنازل، والقبول بظروف وحياة غير عادية للتخلّص من عبء المُلاحقة المجتمعية ونظرة المجتمع بالعموم نحو المرأة الأرملة أي كان طبيعة العمر وطبيعة الحدث وطبيعة المكان الذي صار مفروضاً سواء مخيماً أو مركز إيواء.
كل هذه الصراعات تتم خلال حرب اعتمد فيها الاحتلال سياسة البتر (بتر الأفراد عن العائلات) عبر الحواجز وظروف النزوح وغيرها من الظروف غير الآدمية التي تعيشها النساء بشكلٍ عام، حتى تتنازل المرأة عن أبسط احتياجاتها لتقبل بظروفٍ كانت من الممكن ألا تحدُث لو أنّها لم تكتسب صفة جديدة "أرملة".
جاء في مقدمة كتاب (الغرق، حكايات القهر والونس) للكاتب السوداني "حمّور زيادة" وهي رواية تحكي ظروف خاصّة بالمرأة السودانية وتصلح لأن تتطابق ظروفها مع ظروف المرأة الغزية في ظل الحرب من المقدمة أقتبس:
"لم أكن أعرف
أن عظام النساء كان مُقدّرًا لها
أن تكون متحفًا للمآسي
كما لو أنّنا كتب علينا أن نحمل البحر
دون أن نغرق" _ أيجوما أومبيينيو، ترجمة ضي رحمي.
منذ يوليو 2024 بدأت مساري الخاصّ بتوثيق قصص النساء مع الفقد، هذا الدليل الذي كان أمامي طوال الوقت خاصّة وأنني أنهيت قراءة الكتاب قبل بدء الحرب أكتوبر 2023. فلم يكن لدي توقعاً بشأن النساء وحرصهن العظيم باستحضار لحظات الحب وتوثيق شهادتهن وفخرهن العالي بأنّ هذه الفرصة التي يتحدثن فيه دون خجل عن الأمر، وبأنَّ الحرب هي أسوأ أنواع وأدوات بل أبشعها التي تقتل الحب وتنهي استمراره.
وليس الأمر بعيداً فقد شَهدنا على قتل الاحتلال للعائلات التي كانت تحبو نحو تأسيس أسرة أساسها الحب في ظِلّ ظروف غزيةّ صعبة من حصارٍ مستمر، فالأمر أشبه بمراهنة يُظهرها الغزي رجل وامرأة بتأسيس عائلة في ظروفٍ غير مستقرة قتل الاحتلال زوجة بتوأميها رنا عرفة (أبو القمصان) وبقيَّ زوجها يكابد شعور الفقد، فقد العائلة والحب. وآخر الضحايا كانت الفنانة ولاء الإفرنجي وزوجها وكم أظهرت الصور التي شهدناها على ملامح حبٍ كان يطمح لتأسيس عائلة.
لكنَّ الاحتلال يُعمِق أكثر في إفقاد المجتمع صورة العائلة بقتل الأساس الأول لهذه العائلة "الرجل"، في إحدى الجلسات التي عملت فيها بمنطقتي نزوح النصيرات والزوايدة، كنت أسأل النساء حول معنى فقد الرجل من الحياة أي كانت صفته بالحياة الجميع اتفق على أنهن فقدنا "السند" والذي غالباً ما يشكِّل حماية أساسية لقدرة المرأة على المواجهة أقلّها مواجهة الظروف الطارئة الحرب.
لن أنسى ملامح "سحر" _اسم مستعار_ التي اعتلت وجهها، وهي المرة الثانية التي أُصادف فيها ملامح وجهها. كانت زميلة دراسة جامعية شهدت فيها على علاقة الحب التي جمعتها بزوجها "صالح" _اسم مستعار_ كانت البداية الطبيعية لتكوين علاقة لطيفة بدأت من درَج مكتبة الجامعة، جاء صالح طالباً مساعدة كي يحصل على فرصة استعارة كتاب من مكتبة الجامعة لكنه اكتشف أنّ بطاقته الجامعية ليست معه، فبادرت سحر بأن تستعير الكتاب من خلال بطاقتها. من تلك اللحظة التي استجابت فيها سحر لمساعدة صالح ونحن نشهد حرصها على القراءة وزيارة مكتبة جامعة الأقصى_ بغزة_، واستمر الأمر طوال فترة الدراسة الجامعية نشهد فيها على سرّ الحدث الصغير والصدفة التي جمعت سحر وصالح.
سحر التي تدرس في قسم التاريخ، وصالح الذي يدرس في قسم العلوم والكتاب المستعار وقتذاك كان في مادة التشريح. يكبرها بثلاثة سنوات جامعية والصدفة سرّ هذه العلاقة. انقطعت بنا سبل التواصل بعد التخرج، حتى عادت الصدفة لي بملامح سحر مرة أخرى في مخيم بمنطقة الزوايدة ضمن مسار توثيق القصص. تقدمت سحر من باب خيمتها نحوي وتعرفت إليّ وذكرتني بالشاب الوسيم المهذب الذي جاء مستأذنًا الحصول على البطاقة الجامعية جمعتنا الصدفة والقدر بأن نكون زوجين لتكمل:
"استمر حبنا بعد الجامعة بسنتين وفي الثالثة من تخرجه وحصوله على فرصة سمحت له بالارتباط، صار زوجي" وبدأت تهدهد صغيرها الذي وُلِد دون أن يعرف أبيه بل حمل منه الاسم فقط.
فقدت سحر الزوج الحبيب والأخ والأب بنفس الشهر ديسمبر 2023 كانت اختبارات الفقد متوالية في مدّة لا تقل عن عشرة أيام بين كل فقد وفقد، بالبداية فقدت الأب ثم الأخ وآخرها كان الزوج في حيّ الزيتون بمدينة غزة؛ ما اضطرها بعد سلسلة الفقد هذه أن تنزح مع عائلة زوجها وكما قالت: "الالتزام بأشياء وظروف كانت لا يمكن أن تحدث لو صالح ظلّ موجوداً ولم يستشهد" وتكمل:
"جاء فقد صالح سِكينة كبيرة شقت القلب على جرح صالح الذي حرص على احتواء حزني الشديد على أبي وأخي لم يصمد أكثر من عشرة أيام حتى قتله الاحتلال" والسؤال علَق في فمّ سحر "ليش؟" لتختم الحديث بجملة:
"الحرب قتلت أهم حب في حياتي، حب 14 عاماً راح بغمضة عين" .
تعمق الحرب في قتل مفهوم السند والعائلة في لحظة لتتكدس بعد حين مجموعة من النساء الفاقدات لشعور الثقة بالحب واستمراره.
السيدة "سهام" امرأة في الخمسينيات تخبرني بأن دافع الحب والعشرة كان عنصر مهم في محاولتها لإسعاف زوجها في أيام الحرب الشديدة يونيو 2024 المعروف بحدث النصيرات الذي قتل فيه أكثر من مئة شهيد، تُخبِر السيدة: "لا أعرف من أين أتت لي القوة بالركض وأنا أعاني من ضعف عام في قدمي".
السيدة التي تقيم في مركز إيواء بينما زوجها القعيد كان في زيارة لعائلة ابنه، تقول إن: "حب ثلاثين عاماً دافع مهم لأن أركض بكل روحي كي أحاول أن أطمئن عليه أو إنقاذه". وصلت سهام ووجدته مصاباً وحيداً في ساحة الأرض لم يستطع ابنه حمله إثر أصابته هو الآخر وكان الرجاء الذي يعلو همّة السيدة سهام هو ألا يكون الزوج مصاباً في قلبه، "قلبه الهادئ اللطيف الذي عاش معي ثلاثين عاماً لا أريد له الإصابة، ليكن الجرح في مكانٍ آخر غير هذا القلب"؛ لكن للأسف كانت الإصابة شظية حادة في القلب أفقدته الحياة ووصلت السيدة سهام المكان والدم يغطي الأرض.
تقول: "روحي التي كانت تحرك ضعف جسدي وخوفه لحظة الحدث صارت يتيمة ضعيفة قد لا يزورها الحب، لكن علي أن أواصل الحياة كي لا أُفْقِد الأسرة معنى السند والمعيل".
النساء على تشابه ظروفهن، يُفضِلن الغرق في تفاصيل الحياة كي لا يجعلن من شعور الحب مُهَدَّدًا بالضعف.
في أغسطس 2024 قابلت "هناء" وكانت نزحت حديثاً نحو الجنوب من حي الزيتون بغزة بعدما فقدَت زوجها الذي خرج لتدبير بعض الدقيق من دوار الكويت جنوب مدينة غزة، فقدت آثار زوجها ولم تعرف مكانه، الناس أخبروها بأنّهم دفنوا اثنين قرب دوار الكويت، زوجها أحد المدفونين. استمرارها بالبقاء في المدينة دون النزوح كان أمل عودة الزوج يحمل كيس طحين لتطعم أطفالها، بعد أن نزح جميع من يُمكِن أن تلجأ لهم كمعيلين تستند إليهم لتوفير الطحين والغذاء لثلاث صغار.
تقول هناء: "لقد تحمّلت أثناء وجود زوجي ظروفاً لا يمكن أن يتخيلها عقل، يكفي أيام حصار الدبابات للحيّ كان مصدر ومحرك القوة والصمود، وبقائي مع المدينة ولم أنزح كان سببه الأمل بأنه سيعود ويمدّني بالقوة من جديد"، نزحت هناء بعد أن فقدت الأمل في ظلّ إعالتها لثلاث أطفال أكبرهم عشر سنوات، وأصغرهم ثلاثة. ليقف السؤال عالقاً في فمّ هناء:
"وين أروح ولا قوة معي تسندني؟" في حديثي مع هناء لا أبالغ بأنّها تمنّت أن تكون هي المفقودة لا الزوج، فهي عاجزة عن تدبير شؤون ثلاثة صغار دونه".
تصير النساء وفق المعتقد الشعبي نذير شؤم بعد أن تحصل على لقب "أرملة" وكأنها هي التي اختارت صفتها هذه، بعض المواقف تشكل تهديداً على إحساس النساء بالأمان خاصة بعد الفقد ليكبر لديهن شعور الخوف من المواجهة فيما بعد أي "اليوم التالي للحرب".
"هدى" _ اسم مستعار_ في نهاية العشرينيات، "فتحت عيوني على حبي لزوجي" وفق ما تقول، "كنت صغيرة بعمر الثامنة عشر"، قاتل زوجها كل الظروف الضاغطة عليه للزواج بامرأةٍ ثانية بعد التأكد مع عدم قدرتهما على الإنجاب لزواجٍ استمر سبع سنوات. فُقِدت آثار الزوج بعدما قرر أن يصارع اشتياقه لأهله محاولاً اجتياز حاجز نتساريم العسكري للوصول إلى مدينة غزة ليجتمع بهم، لكنه لم يَعُد وفُقِدت آثاره. الشاغل الأكبر والقلق الذي يزور ذهنها خشيتها من مواجهة العائلة لاحقاً (عائلة الزوج) الذين يَرون فيها سبباً مانعاً لأن يكون له ولد يحمل اسمه.
تقول: "أعرف أنّه ليس ذنبي، لكن لن تغفر لي عائلة زوجي هذا الأمر، ولو أتيت بكل الأدلة التي تقول أن دافع الحب بيني وبينه كان أقوى من إنجاب طفل".
لا أحد يعرف شكل الغرق الذي تختاره النساء كي تخفي إحساسها بالتهديد وفقدانها للأمان لاحقاً؛ لكن يبقى الدليل أن النساء رغم أنهنَّ "يحملن الحرب في عظامهن، ما زلن يَنبتن الورود من بين أسنانهن" من ذات المقدمة السابق ذكرها.
حب قتلته الحرب