سمير أحمد رجل فلسطيني يبلغ من العمر 55 عاماً، وجد في صيد الصنارة مصدراً للأمل والعيش بعد أن حرمته الإصابة من ممارسة مهنته السابقة.
هذا الرجل المكنى بأبو أحمد، ليس مجرد صياد عادي، بل تحمل قصته رمزية قوية على الإصرار والتحدي. حيث تعرض قبل نحو خمس سنوات للإصابة في عمله السابق كعامل بناء أجبرته على التقاعد مبكرًا، ولكنه لم يستسلم للظروف الصعبة.
مع اقتراب عصر اليوم، يتجه أبو أحمد القاطن في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، إلى الساحل المتاخم إلى مكان سكنه، يحمل في عينيه عشقًا للبحر ورغبة في استغلال كل لحظة من حياته بصيد الأسماك والتسلية أيضا.
يحمل الرجل في رحلته شبه اليومية، سلة بلاستيكية مثقبة يخرج من أحد طرفيها رأس الصنارة، وفي الداخل يلف قارورة مياه باردة بقطعة قماش من القطن يقول إنها تساعد على الاحتفاظ بالبرودة في هذا الطقس الحار.
يُلقي الرجل التحية على كل من مر من الصيادين، بعضهم يرد التحية بشغف ويسأله عن حاله، وآخرون يومئون برؤوسهم أو يكتفون برفع أيديهم وعيونهم منصبة على عملية الصيد المماثلة التي يقومون بها باستخدام الصنارة.
يقف أبو أحمد بموازاة عشرات الصيادين الذين يدلون خيطان صناراتهم اللامعة في حوض ميناء غزة، وهو المرفأ الأكبر على مستوى قطاع غزة الذي يتجاوز طول ساحله نحو 40 كيلومترا.
يستثمر الصيادون لسان الميناء الممتد داخل البحر بطول كيلو متر تقريباً، ويصطفون على جانبيه ليمارسوا هوايتهم في صيد الأسماك وبخاصة مع ساعات العصر، وهو تقليد يصطلح عليه البعض (صيد العصاري).
ينظر الرجل باتجاه الشرق فينسد الأفق في وجهه بكتل خراسانية بموازاة الميناء، وهي في الحقيقة مساكن رديئة أرقتها عوامل التعرية، وقد حولها الاكتظاظ السكاني الذي يعايشه القطاع (أكثر من 2 مليون يعيشون على 365 كلم2) ككتلة رمادية واحدة.
بينما كانت تشير عقارب الساعة إلى الرابعة عصراً، كانت تتراص المراكب داخل الحوض، فقد أنهى ملاكها وعاملوها أعمالهم مع ساعات الفجر الأولى. ويستأنفون أعمالهم من ساعات المساء من كل يوم باستثناء الأيام التي تشهد إغلاقاً إسرائيليا أو وقف العمل نتيجة للمنخفضات الجوية.
لا يقطع هذا الهدوء المسيطر على حوض الميناء سوى كوبليه المطربة فيروز "عديت الأسامي ومحيت الأسامي ونامي يا عينيي اذا رح فيكي تنامي". صوت ينبعث من هاتف أحدهم.
يغمس أبو أحمد وهو يهز برأسه بطربٍ مع الموسيقى، طرف خيط الصنارة في فمه لتصحيح قوامه، ومن ثم يحاول إدخاله إلى دائرة الخطاّف المعدني، وبعد ربطه جيداً، يضع الطعم في رأس الخطاف ومن ثم يلقي به بقوة في الماء الذي يتلألأ سطحه تحت وقدة الشمس. فيما يغطي الصيادون رؤوسهم بقطع قماش وقبعات ملونة تلافياً للإصابة بضربة شمس.
يشعل الرجل سيجارة من أصل خمس سجائر اشتراهن في طريقه إلى الميناء، ينفث دخانه في وجه البحر ويقول: "صيد الصنارة ليس مجرد عمل بالنسبة لي، بل هو أسلوب حياة، أنا متصالح مع الحياة ومع الظروف، وأعيش منسجماً رغم رداءة الظروف وفقدان فرص العمل، لكني أتنفس هواء البحر العليل كل يوم والتقط في بعض الأحيان أسماك البوري وهذا يكفي لأن أشعر بالسعادة".
بالإضافة إلى تأمين مصدر رزق أسرته المكونة من خمسة أفراد، يعتبر أبو أحمد نفسه مندوبًا للبيئة وحارسًا للبحر. يشجع على الحفاظ على نظافة الشواطئ ولا يتوانى عن جمع النفايات التي تنتشر هنا وهناك محاولاً الحفاظ على نظافة محيط عمله.
وينحدر هذا الرجل من أسرة امتهنت الصيد قديماً لكنها لم تواصل العمل فيه، بسبب تعقيدات الحياة والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الصيادين واعتراض طريقهم ومصادرة معداتهم وتدمير مراكبهم. والتي بلغت منذ مطلع العام الحالي أكثر من 200 انتهاك، طبقاً لما قاله مسؤول لجان الصيادين زكريا بكر.
ويشير الصياد أبو أحمد إلى أنه لم يجد أفضل من (الصيد) مهنة أجداده، للعمل بها بعد تعرضه لإصابة بالغة في قطاع الإنشاءات، أعجزته عن مواصلة العمل. وقال: "صيد الصنارة هو أقل خطورة ولا يشكل عبئًا صحيا بالنسبة لي، وهو مساحتي اليومية للهروب من اليأس الذي يسيطر على السكان بفعل الحصار وانعدام فرص العمل".
وبينما يحدث أبو أحمد عن همومه اليومية ومعاناته مع مصروفات أبنائه الذين يتلقون تعليمهم الجامعي، صمت وأبدى تركيز أكثر مع صنارته التي بدأ بجمع خيطها وفي لحظة ارتسمت على وجهه ابتسامة بعد أن رأى سمكة تقفز معلقة من رأس الخطاف.
لا يبدي الرجل سخطاً على الأيام التي يعود منها خماصاً، فيقول "هذه رحلة صبر، فإما أن تصبر وتتذوق طعم الرضا فيما قسم من رزق لك، وإما أن تسخط ويضيق الأفق في عينك وتعيش في حالة يأس، وأنا رجل يكره اليأس".
عندما ينتهي الصياد أبو أحمد من جلب صيده اليومي، يعود إلى منزله في مخيم الشاطئ. يستمتع بمساء هادئ يستعيد فيه قواه للمغامرة في اليوم التالي، يرتشف قهوته رفقة زوجته، داخل مسكن رديء لكنه مفعم بالحب.
يغني الرجل كوبيليه للمغني صباح فخري يحمل رمزية إلى مهنته اليومية: "صيد العصاري يا سمك يا بني .. تلعب بالميه لعبك يعجبني". يدندن وهو يرمق زوجته التي ابتسمت وأشاحت وجهها خجلاً.