بين الحين والآخر تطفو إلى السطح أزمة جديدة داخل أروقة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) تتعلق بشح التمويل، وانعكاسات ذلك الأمر على اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، سواء كان الأمر يتعلق بالعجز عن توفير رواتب موظفيها، أو حتى تقليص حجم الخدمات والمساعدات الإغاثية المقدمة للمخيمات الفلسطينية.
يهاجم اللاجئون الفلسطينيون الوكالة الأممية التي تشكلت بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1949، ويتهمونها بأنها "تتلاعب بلقمة عيش الفقراء وتتعمد ابتزازهم بين الحين والآخر" بإعلان جملة من الإجراءات الرامية إلى تقليص المساعدات بذريعة الأزمة المالية التي تعاني جراءها.
بيد أن المستشار الإعلامي لـ(الأونروا) قال في تصريحات صحافية إن فكرة المؤامرة ليست مطروحة في سياسات منظمته، مؤكداً أنه تجري الآن عملية "فلترة" لأسماء المستفيدين من الخدمات الإغاثية. واعتبر أن: "هناك العديد من الأشخاص وهم من الأغنياء يتسلمون مساعدات غذائية على حساب آخرين هم بحاجة إليها".
المتتبع لسلسة سياسات الوكالة الأممية في قطاع غزة بصورة خاصة، يرى أنها بدأت في تموز/يوليو 2018 عندما أقدمت على فصل قرابة ألف موظف يعملون ضمن برنامج الطوارئ، فيما قامت الأونروا في حزيران/يونيو الماضي بفصل 106 موظفين في مراكز لتأهيل ذوي الحاجات الخاصة، وسبق هذا القرار بستة أشهر فصل 24 موظفاً من العاملين في مراكز التأهيل أيضاً.
في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلنت الأونروا إجراء تغييرات على المساعدات الغذائية المقدمة إلى اللاجئين، إذ قالت إن جميع لاجئي فلسطين المسجلين والموجودين في غزة (1.14 مليون لاجئ) سيحق لهم الحصول على الغذاء، لكن سيكون هناك بعض الاستثناءات لمن هم أكثر حظاً من غيرهم، وخصوصاً ذوي الدخل الثابت. وذلك باعتماد السلة الغذائية الموحدة بصرف النظر عن حجم الأسر ودرجة حاجتها، بعدما كان هناك نوعان من السلال إحداها للأسر الفقيرة، والأُخرى للأشد فقراً.
ترجع الوكالة الأممية إجراءاتها تلك وغيرها، إلى العجز الكبير والخطر في موازنتها العامة، وهو ما دفعها إلى تأخير صرف رواتب موظفيها البالغ عددهم 28 ألف موظف، يعملون في مناطق العمليات الخمس وهي قطاع غزة والضفة الغربية والأردن وسورية ولبنان.
يسبق هذه الإجراءات جميعها، وقف برنامج القروض للمشاريع الصغيرة التنموية والزراعية، بعدما كان قطاع غزة يستحوذ على 25.5% من قيمة التمويل الإجمالي للمشاريع الصغيرة، والذي تقدمه الأونروا للشبان بين سن (18- 30 عاماً). وتراجع الإقراض البسيط خلال 11 عاماً (2006-2017) من (12 ألف قرض)، إلى (1.307 قرض).
لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن هذا التقليص يترافق مع تضخم مستوى الفقر والبطالة في قطاع غزة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة بفعل الحصار والإغلاق والحد من فرص الاستيراد أو التصدير، فضلاً عما أحدثته جائحة كورونا من أزمة اقتصادية خانقة على صعيد تعطيل القوى العاملة، وبلوغ نسبة البطالة أكثر من 80%.
كلنا يعلم، أن أزمة التمويل ليست جديدة على الأونروا فهي متواصلة منذ سنوات، غير أن العلامة الفارقة في هذه الأزمة بالذات والتي أثيرت نهاية العام الماضي، هي إشارة موظفين من داخل (الأونروا) إلى تواطؤ بعض مسؤولي الوكالة في تقليص الخدمات المقدمة إلى اللاجئين، في محاولة منهم للاستجابة للضغوط الخارجية ومحاولة إنهائها بطريقه منهجية، منعاً لاستدامة قضية اللاجئين.
سبق هذا الاتهام، بعامين على الأقل، توجيه أصبع الاتهام إلى مدير عمليات الأونروا في قطاع غزّة حالياً ماتياس شمالي، والذي ما إنْ عُيّن في منصبه في تشرين الأول/أكتوبر 2017، حتى بدأ سلسلة من الإجراءات والتقليصات منها: وقف التوظيف اليومي، وقف تعبئة الفراغات والشواغر وتثبيت الموظفين، وقف عقود البطالة، إنهاء عقود نحو 100 مهندس فجأة، بالإضافة إلى تقليصات طالت برنامج المساعدات الغذائية.
ويتهم موظفون داخل أروقة الأونروا مسؤوليها بالتماهي مع رغبة بعض الدول المانحة وإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وكذلك اللوبيات الإسرائيلية في التخلص من وكالة الغوث الدولية، على الرغم من أن الأخيرة حصلت مطلع العام الماضي على دعم سياسي في الأمم المتحدة من 166 دولة حول العالم بتجديد عملها للأعوام الثلاثة القادمة، لكن هذا الدعم السياسي لم يترجم إلى دعم مالي منظم وكاف.
بالتزامن مع هذا الضغط الذي تمارسه الجهات الممولة على الوكالة الدولية، نشر باحثان إسرائيليان قبل أيام مقالة حرّضا فيها على وكالة الغوث من خلال مطالبة الدول التي تقدم المساعدات بضرورة ضمان عدم وصول الأموال المحولة لمساعدة المنظمات الفلسطينية المسلحة.
الباحثان الإسرائيليان، رون شلايفر ويهودا براشين، من مركز بادين لدراسات سياسة الشرق الأوسط، يتهمان الأونروا التي تقدم خدمات لكل من قطاعات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية داخل المخيمات، بأن من يستفيد من خدماتها هم سكان هذه المخيمات من الفلسطينيين "المعروفون بنشاطهم السياسي، وصلاتهم بالمنظمات المسلحة، ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس".
يضاف إلى ذلك، فتح وزارة الخارجية الأسترالية قبل يومين، تحقيقاً رسمياً ضد وكالة الغوث بشأن المناهج الدراسية المقدّمة لطلاب المدارس التي تشرف عليها في الأراضي الفلسطينية، وذلك في أعقاب ادعاء مراكز أبحاث أن مناهج الأونروا تتضمن محتوى "تحريضي وعنيف"، في حين أن أستراليا تُعتبر من المانحين الرئيسيين للأونروا.
وعلى الرغم من أني لست هنا في معرض مناقشة هذه المزاعم وغيرها، لكن يبدو جلياً أن الأزمة المالية باتت ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبعد السياسي لمستقبل الوكالة وتشكل تهديداً وجودياً لها، وخصوصاً أنها تتزامن مع التحريض الإسرائيلي الواضح بهدف وقف عملها توطئة لشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
وأياً كانت الأسباب سياسية خارجية أو مالية داخل أروقة الأونروا، فإن 5.3 مليون لاجئ فلسطيني في مناطق عمليات الأونروا الخمس، سيواجهون أزمة عوز نتيجة تقليص الخدمات، وخصوصاً أن أغلبيتهم تقع تحت خط الفقر، هذا أولاً.
ثانياً، إن إخضاع ميزانية الأونروا للابتزاز السياسي حتى لا تفي بحاجات اللاجئين، هو خطوة على طريق إنهاء عملها، ولا سيما أن هناك مساعٍ حثيثة لتغيير صفة "لاجئ" وتقليص أعداد اللاجئين الفلسطينيين ليصل إلى 40 ألفاً (من لا يزالون أحياءَ ممّن هجروا في عام النكبة)، من أصل 5.2 مليون لاجئ، بحجة أن من هُجّروا في عام النكبة لم يتجاوز عددهم 700 ألف فلسطيني، ولا يجب أن يُحتسب نسلهم من الأجيال المتعاقبة.
ثالثاً، تُعتبر الوكالة الدولية الشاهد الأممي الوحيد على قضية اللاجئين، وإن السماح بإنهاء عملياتها في المخيمات الفلسطينية، هو بمثابة خدمة مقدمة على طبق من ذهب للاحتلال، إذ إن إسرائيل تعتبر قضية اللاجئين مصدر تهديد استراتيجي بعيد المدى على هوية الدولة اليهودية.
حيال هذا الواقع، ما هو المطلوب فعله الآن على المستويات الثلاثة: اللاجئون، الأونروا، السلطة الفلسطينية:
أولاً: أن يرفض اللاجئون جميع الحلول الموقتة و"المسكنات" المتعلقة بتقليص الخدمات ومواصلة الاحتجاج على أي من التقليصات التي تمس حقوقهم سواء كان في الحصول على الخدمات الإغاثية أو رواتب الموظفين.
ثانياً: أن تبادر الأونروا إلى إثبات صدق نياتها عبر مواصلة الضغط على الجهات المانحة وخصوصاً إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، من أجل استئناف الدعم الأميركي والمقدر بـ 360 مليون دولار سنوياً.
ثالثاً: أن تمارس السلطة الفلسطينية جهداً سياسياً مضاعفاً من خلال أذرعها الدبلوماسية في العالم، للحفاظ على بقاء الأونروا في الساحة الفلسطينية، وتطوير ما يلزم من استراتيجيات لمواجهة تهديدات إنهاء ملف اللاجئين، الذي يعد أحد أبرز مرتكزات الصراع مع الاحتلال.