تأتي نظم الشكاوى في الحكومات على رأس الوسائل المهمة لتعزيز الشفافية والمساءلة، وتحسين جودة الخدمات المقدمة. تعكس هذه الأنظمة التزاماً بالكفاءة والأخلاقيات الإدارية، ومن خلال تفعيل نظام شكاوى فعّال، يمكننا ضمان استمرار العمل الحكومي بمهنية دون مخالفات إدارية.
بالإضافة إلى ذلك، تعد شكاوى المواطنين جزءًا أساسيًا من الرقابة المجتمعية، كما يقول باحثون فلسطينيون، حيث تشجع الشكاوى على مشاركة المواطنين في تحسين الخدمات الحكومية وتعزز فرص التعبير عن آرائهم والتصدي لأي من أشكال الظلم والفساد.
انطلاقاً من قاعدة تعزيز المساءلة المدنية، أثرنا طرح السؤال: كيف يعزز نظام الشكاوى الحكومي الشفافية في غزة؟
يقول المواطن الفلسطيني جميل سالم (اسم مستعار)، والقاطن في مدينة غزة، إنه ليس بإمكانه أن يقر بوجود شافية واقعية من قبل الجهات الحكومية، لاسيما أنه أودع شكوى لدى إحدى المؤسسات الحكومية رفض الإفصاح عنها أو ماهية شكواه، لكنها لم تحظ باستجابة منذ عدة أشهر، حسبما قال.
وأشار جميل في العقد الثالث من عمره، إلى أنه حين قام بمراجعة دائرة الشكاوى التي أودع الشكوى لديها، لم يحصل على إجابة واضحة حول ما آلت إليه الشكوى وإلى أين وصلت، بدعوى أنها لا تزال منظورة بين يدي المسؤولين عن استقبال الشكاوى.
صحيحُ أن إفادة المواطن جميل، غير كافية للدلالة على أن فاعلية نظام الشكاوى ليس بالشكل المطلوب، لكنها استدلال على أن نظام الشكاوى بحاجة إلى مراجعة دقيقة حتى يكون أكثر فاعلية. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: ما هو الإطار القانوني النظام لعملية تقديم الشكوى؟
إطار قانوني
ويعد نظام الشكاوى الصادر عن السلطة الفلسطينية والمعدل في الثامن من مارس 2009 هو الإطار القانوني الناظم لعملية تقديم الشكاوى لدى المؤسسات الحكومية الفلسطينية، والذي يتم بموجبه توسيع نطاق وحدات الشكاوى بإلزام المؤسسات الحكومية بالإضافة الى الوزارات بتضمين هيكلياتها وحدات للشكاوى.
كما صدر دليل الإجراءات الخاص بنظام الشكاوى بموجب قرار أصدره أمين عام مجلس الوزراء رقم (1/13/ح.أ.ل) لسنة 2009 حدد الإجراءات المتبعة في عمل دائرة الشكاوى في مجلس الوزراء ووحدات الشكاوى في المؤسسات الحكومية.
أما في قطاع غزة فقد استمرت وحدات الشكاوى والأقسام التي تتابع الشكاوى تعمل وفقا لنظام دائرة الشكاوى في رئاسة مجلس الوزراء ووحدات الشكاوى في الوزارات الصادر بتاريخ /5/3 2005.
وبمقارنة عدد الشكاوى المقدم في قطاع غزة بين العام 2010 – 2022 عبر الأنظمة المتعددة، تبين أن هناك زيادة بنسبة 90% في عدد الشكوى:
ومن الواضح أن هذه الزيادة في عدد الشكاوى، خلال 12 عاماً الأخيرة، طبقاً للتقارير التي اطلعنا عليها، تعطي مؤشراً واضحاً إلى ضرورة أن يكون هناك نظام شكاوى فاعل من الجهات الحكومية بقطاع غزة ذو قدرة على التعامل معها.
وطبقاً لتقرير صادر عن ائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) فإن الإطار القانوني الناظم لعملية تقديم الشكوى موجود وقائم في قطاع غزة، غير أن هناك حاجة لوجود دليل إجراءات نموذجي موحد. وهو ما انعكس على فعالية منظومة الشكاوى في القطاع التي اتضح أنّهاَ ليست فعالة بالمستوى المطلوب.
يقول الباحث حسين حمّاد الذي أعدّ التقرير بهدف تسليط الضوء على نظام الشكاوى وتقديم التوصيات العملية لصناع القرار لتجاوز التحدّيات وإزالة العقبات التي تحدّ من فاعليتها، إنّ هناك عدّة أسباب تحول دون فعالية النظام في المؤسسات الحكومية بغزة.
أهم تلك التحديات هو تعدد الجهات العاملة في منظومة الشكاوى ما بين نظام الشكاوى الإلكتروني "نظام الدخول الموحد"، أو الوجاهي التقليدي عبر دوائر ووحدات الشكاوى والديوان، إضافة إلى عدد الشكاوى المُستَقبَلة، وآلية معالجتها، وكيفية إغلاقها.
يوضح حمّاد، "عندما تقول جهات الاختصاص إنها أغلقت عددًا كبيرًا من الشكاوى من المهم أن نعرف كيف أُغلقت، هل بوصول المشتكيين إلى حقهم؟ هل أُغلقت لعدم الاختصاص؟ هل أغلقت دون التوصل لحلول؟ إذ تساهم تفاصيل غلق الشكاوى في معرفة مدى فعالية النظام".
أما حول آلية معالجة الشكاوى في المؤسسات فإنّ وجود أنظمة لاستقبالها هو أمر يخدم عملية المعالجة، ولكن بشرط وجود جسم إشرافي على المنظومة ككل ويمتلك الصلاحيات اللازمة كاملة، وفقًا لحمّاد.
وعلى الرغم من تقديم التقرير لمجموع الشكاوى المقدم سواء للدوائر الحكومية أو ديوان المظالم، والبالغ عددها (26,898 شكوى) خلال العام 2022، إلا أنه رأى أن هذا الرقم على ضخامته لا يعد كبيراً، إذا ما نظرنا إلى عدد الشكاوى اليومي التي تتلقاها الجهات الحكومية والذي يبلغ (73 شكوى) لجميع الجهات.
وقال التقرير: "لا يمكن استخلاص نتائج مهمة من الأرقام المعلنة بشكل دوري عن نظام الشكاوى، إلا إذا تم فحص طبيعة الشكاوى المتلقاة وجدولتها وفقا لتصنيفات موضوعية غير عددية، لغرض المتابعة وتصويب الأوضاع".
أنظمة الشكاوى
ويوجد في الإطار المؤسسي بقطاع غزة أنظمة شكاوى متعددة منها المدنية أو العسكرية سواء في الوزارات أو المؤسسات الحكومية أو الأجهزة الأمنية. بعض هذه الأنظمة يحمل صفة الإشراف كديوان المظالم في مجلس الوزراء على المنظومة الحكومية، ومكتب المراقب العام على الأجهزة الأمنية، أما بعضها الآخر له صفة التنفيذ.
هذا الأمر من وجهة نظر الباحث حماد، يُبرِز الحاجة إلى إعادة صياغة المنظومة وتشكيل جسم مُوحد لكلا القطاعين المدني والعسكري، أو جسم لكل قطاع على حِدا، مشيراً إلى أن من مهام هذا الجسم القيام بما تمليه عليه المواقف التنظيمية ويكون له صفة الإشراف والرقابة على مُختَلف مكونات المنظومة، فيتكلف بضبط ومتابعة ورسم السياسات الاستراتيجية والتنفيذية ويكون له القدرة على التدخل الفاعل.
وأظهر تقرير "أمان"، أن النظام القائم يغيب حماية المبلغين عن الفساد بأشكاله المختلفة في الجهات الحكومية، والضوابط الضامنة لعدم إفلات الفاسدين من العقاب، خاصّة أصحاب النفوذ. وهو ما يتوجب العمل عليه تحقيقًا لمساعي مكافحة الفساد في الوظيفة العمومية.
بالإضافة إلى ذلك، كان من أبرز الاستنتاجات أن مسألة مراعاة حساسية النوع الاجتماعي في منظومة الشكاوى هي مسألة غائبة في قطاع غزة وتحتاج إلى التركيز سواء من خلال عدد الموظفات العاملات في دوائر ووحدات الشكاوى أو إيجاد خصوصية لشكاوى النساء من خلال التصنيف والمتابعة الخاصّة.
كما تواجه أماكن الشكاوى والمباني مشكلات مواءمة الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، ويُلمس الضعف الواضح في التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية والسمعية، ويحتاج الأمر إلى إيجاد وسائل تسهيلية خاصّة وآلية ضامنة لسماع شكواهم والتأكد من وصولهم إلى حلول منصفة.
وقد أوصى حمّاد في تقريره، الجهات الحكومية في قطاع غزة بإيجاد آليات ناجعة للإبلاغ عن الفساد؛ لتحقيق مبدأ مكافحة الفساد ووضع الإجراءات الكفيلة لضمان عدم الإفلات من العقاب. وأشار إلى ضرورة قيام الجهات الحكومية بوضع إدارات شكاوى في وضعية مناسبة في الهيكلية الوظيفية والعمل على تمكيّنها إداريًا.
إضافة إلى ضرورة تطوير الجهات الحكومية آلية معالجة الشكاوى، لا سيما في كيفية إغلاق الشكاوى، على أن يُطلق مصطلح "الإغلاق" على الشكاوى التي نجحت الجهات الحكومية في حلّها، وليس على تلك التي أنهيت أو ردت أو حولت إلى جهات اختصاص أخرى.
ومن أجل إغلاق تلك القضايا بالسرعة اللازمة وتمكين المواطنين من نيل حقوقهم، أوصى التقرير بتوفير الكادر البشري الكافي والكفء والقادر على إدارة منظومة الشكاوى الحكومية، بالنظر إلى أهمية أنشطة المتابعة وإعطاء كل شكوى حقها، بضبط آليات التعامل مع شكاوى المواطنين المقدمة لوحدات ودوائر الشكاوى.
تبين المعطيات، أن الكادر البشري المخصص لتلقي الشكاوى في (29) وزارة ومؤسسة حكومية وديوان المظالم وفي القطاع الأمني، يبلغ نحو (289) موظفاً، وهو عدد لا يعتبر كبيرا بالنظر إلى عدد دوائر ووحدات الشكاوى الموزعة على الوزارات والمؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية في قطاع غزة.
ويلاحظ أن هناك سيطرة للذكور على دوائر ووحدات الشكاوى في الجهات الحكومية المدنية بـ(67 موظفاً) بنسبة (75.3%) مقارنة بـ(22 موظفة) بنسبة (2437%).
من جهته، قال مدير ديوان الشكاوى في المجلس التشريعي ماجد أبو مراد: "نحن في المجلس التشريعي كسلطة تشريعية سيادية نستقبل شكاوى وتظلمات المواطنين، ومن حق أي مواطن أن يودع شكوى لدينا، لكننا نهتم أكثر بالمظالم والشكاوى التي تتعلق بالسلطة التنفيذية، حيث إننا نستقبل هذه الشكاوى ونعمل على معالجتها، على قاعدة إنصاف المواطنين المتضررين".
وأوضح أبو مراد أن المواطنين بإمكانهم تقديم الشكاوى عبر ثلاث طرق "الشكاوى المكتوبة أو الإلكترونية أو الوجاهية"، مبيناً أن آلية التعامل مع الشكوى طبقاً للنظام الداخلي للمجلس التشريعي للدراسة، تبدأ من إخضاعها للدراسة والبحث، ومن ثم التعامل معها وصولا إلى إحقاق الحق.
وعبر في الوقت نفسه، عن أهمية تفعيل الأدوات الرقابية التي يتمتع بها المجلس التشريعي، وفقا للقانون، في التعامل مع السلطة التنفيذية، كتفعيل السؤال البرلماني، مؤكدا على أهمية أن يكون هناك دليل موحد للإجراءات بهدف التسهيل على المواطنين، وبالتالي سرعة الاستجابة لشكواهم.
في المقابل، أشار مدير ديوان الشكاوى في المجلس التشريعي، إلى أن المجلس يمارس دوراً رقابيا على دوائر الشكاوى في المؤسسات الحكومية، "وهذا دليل على الحرص على معالجة قضايا المواطنين" حسبما قال.
عوداً على ذي بدء، وبناء على توصيات التقرير الصادر عن (أمان) فمن الأهمية القصوى، نشر الجهات المختصة المعلومات الخاصة بمنظومة الشكاوى، لا سيما نتائج لجان التحقيق وتقصي الحقائق أو الشكاوى المنظورة أمام ديوان الرقابة المالية والإدارية على الملأ، وإتاحتها للباحثين ووسائل الإعلام، لضمان عدم تغييب الشفافية ومنع الحصول على المعلومات.
باتباع هذه التوصيات نضمن وجود نظام شكاوى في المؤسسات والجهات الحكومية يُعزز الشفافية والمساءلة، ويُحسِّن جودة الخدمات، ويرفع الثقة والعلاقة بين المؤسسات والمواطنين، ويساهم في تحسين العملية التشغيلية، ويعزز التواصل والتفاعل، ويحفز التحسين المستمر، ويعزز الثقة العامة في المؤسسات والجهات الحكومية.
نظام شكاوى