ذات فجر في منتصف سبتمبر 2019، تاريخٌ لم تنسه "هدى" عندما وقفت على باب شَقَتها تُودّع زوجها أحمد، فيما هو يسترق نظرة لها وأخرى لسيارة أجرة تنتظره لتقلّه إلى معبر رفح البري الفاصل بين قطاع غزة ومصر، تاركًا إياها وصغيرتيهما اللتين لم تُدركا بعد معنى غياب الأب، أو سفره دون وجهةٍ وفترة محددة.
منذ ذلك التاريخ لم يعد لدى هدى معنىً لتفاصيلٍ كثيرة كانت تجهل مذاقها الجميل، أو كما اصطلحت عليها مسمى "النعم الصغيرة". وعلى الرغم من أنّها وزوجها كانا بالكادّ يتدبران مصروف أسرتهما الشهري الذي يتحصل عليه من عمله في أحد مصانع الملابس بغزة؛ إلا أنّها كانت راضية وسعيدة حتى ضاقت أحوالهم المادية أكثر بعد تدمير المصنع على إثر قصف إسرائيلي، وتملك القلق فِكر زوجها الذي لم يعد يرى خلاصه إلا في الهجرة.
الكثير من الأزواج أيضًا اتخذوا من الهجرة سبيلًا لهم، ومنذ عام 2007 حتى نهاية عام 2021 بلغت أعداد المهاجرين من قطاع غزة 860.632 شخصًا، فيما لوحظ في الشهرين الأخيرين من العام الحالي 2023 (تموز- أغسطس) زيادة ملحوظة في أعداد الشبان المغادرين القطاع.
وفي دراسة أعدّها مركز شؤون المرأة حول "تأثير هجرة الأزواج على النساء" وصدرت في أيلول 2023، تبين أن جزءًا كبيرًا من هؤلاء الأزواج المهاجرين كأحمد وغيره، غادروا البلاد لأسبابٍ اقتصادية، تنوعت أشكالها، وجاء (68%) منها لتحسين الوضع الاقتصادي، وفي نسبةٍ مقاربة قدّرت بـ (61%) هاجروا لقلّة الدخل وعدم القدرة على العيش.
فيما أظهرت الدراسة أنّ (46%) من الأزواج المهاجرين غادروا القطاع لعدم توفر مصدر دخل، و(39%) كانت هجرتهم بداعي عدم توفر فرص عمل. أما ظروف الغلاء وعدم القدرة على التكيف معها فقد كانت دافعًا لهجرة (32%) منهم أيضًا. وآخرون بنسبة (8%) فقط هاجروا لمحاولة كسب خبرات أخرى في مجال عملهم، بينما هاجر (5%) من الأزواج لاستكمال دراستهم، وبقيت نسبة (9%) جاءت لأسبابٍ اقتصادية أخرى.
وكان أحمد الذي دفعته قلّة ذات اليد للهجرة وهو في نهاية عقده العشرين، قد اضطر إلى بيع ذهب زوجته الذي اقتناه لها من مهر زواجهما قبل أربعة أعوام من قراره بالهجرة؛ وذلك لتأمين تكاليف هجرته التي بلغت أكثر من ألفي دولار أمريكي، بينما تكابد اليوم الزوجة معاناة مضاعفة لتأمين قوت يومها وطفلتيها من عملها في صناعة وبيع المعجنات المنزلية.
ذلك "الذهب" الذي أملت هدى في استخدامه لتحسين ظروف سكنهم حيث تعيش داخل شقة مسقوفة بالأسبست، ذهب مع أحمد في طريق هجرته إلى غير عودة. فيما بقيت هي تتحمل وحدها عناء توفير احتياجات البيت والأطفال الذين يكبرون يومًا بعد يوم، دون أن يستطيع أبوهم حتى اللحظة تحسين ظروفه ولمّ شمل العائلة أو تأمين متطلباتهم على الأقل.
واضطر الكثير من المهاجرين الشباب، لبيع مصاغ زوجاتهم أو استخدموا طرقًا أخرى لتوفير تكلفة الهجرة في ظلّ معاناتهم أوضاعًا اقتصادية سيئة. وقدّرت الدراسة التي أجريت على (244 مبحوثة) أنّ (44.7%) من أزواجهم وفروا تكلفة الهجرة من مالهم الخاص، أما (40.6%) منهم باع مصاغ زوجاتهم.
إضافة إلى ذلك، تحصل (36%) من الأزواج على تكاليف الهجرة من صديقٍ لهم سواء كان دَينًا أو مساعدة، بينما جمّع (22.8%) من الأزواج ثمن الهجرة خارج البلاد من عائلاتهم، و(4.1%) من عائلات زوجاتهم، فيما اعتمد (16.9%) منهم على قرض لتوفير المبلغ، أما (8.7%) منهم وفروا المبالغ بطرقٍ أخرى.
غير أنّ الأسباب الاقتصادية لم تكن هي الدوافع الوحيدة وراء هجرة الأزواج من قطاع غزة، فقد ارتبطت بشكلٍ أو بآخر مع أسبابٍ اجتماعية بحتة وقفت خلف هجرة الآلاف منهم. أبرزها المشاكل المتعددة الاتجاهات، والتي ربما تكون نتيجةً للظروف المادية أو غيرها.
جهاد كمال هو واحد من الذين هاجروا قبل عامين واتخذ "بلجيكا" مقر إقامة له، بعدما تفاقمت مشاكله مع أهله، تقول زوجته نسمة، "كان زوجي أكثر إخوته الخمسة تدبيرًا وادّخارًا في المال، وكنا نقتطع من مصروفنا الشهري ومصروف أبنائنا الثلاثة في سبيل أهله".
ازداد اعتماد اخوته الشباب ماديًّا عليه، وأصبح هو يتكّبد تكاليف تعليمهم وتزويجهم. واستمر الأمر كذلك حتى بدأ يخسر أمواله التي استثمرها في تداول العملات الرقمية عبر الانترنت. تعقب نسمة، "كاد أن يفقد صوابه وبدأ يطالب اخوته بتسديد جزء من أمواله التي صرفها عليهم حتى يتدبر القليل مما يمكّنه من فتح مشروع صغير أو النهوض بحالنا من جديد. فيما هم يرفضون، والمشاكل تزداد بينهم، ويزداد حالنا صعوبة، حتى قرر الهجرة في غضون أيام وغادر غزة".
ويعتقد الكثير أن الهجرة سببها الأول والأخير هو العامل الاقتصادي فحسب، غير أن عينة الدراسة التي أجراها "شؤون المرأة"، تبين أن (33.6%) من الأزواج هاجروا بسبب المشاكل الأسرية، أما الذين هاجروا نتيجة زيادة المشاكل الأسرية فقد فاقت الأولى وبلغت (39.8%). إضافة إلى ذلك كان وجود قريب أو صديق في الخارج محفزًا اجتماعيًا لهجرة (31.6%) منهم.
بينما تظهر الدراسة أن الرجال المتزوجين والذين هاجروا من قطاع غزة نتيجة قيود اجتماعية، بلغت نسبتهم (21.3%)، وغيرهم هاجروا بسبب مشاكل حاصلة مع الجيران أو المجتمع المحيط عامةً وذلك بنسبة (11.9%)، أما (11.1%) من الأزواج فقد هاجروا لأسباب اجتماعية أخرى لم تذكر.
تقول نسمة التي لم يمضِ على هجرة زوجها سوى أشهر: "بالطبع لم يكن يخلو بيتنا من المشاكل أبدًا، على العكس منذ زواجنا لم يهدأ بيتنا من تدخلات والده وتحكمه في كل (قرش) يكسبه زوجي"، وعلى إثر ذلك كانت تتفاقم مشكلاتها هي مع زوجها وتتزايد ضغوطها عليه بتوفير بيتٍ مستقل لهما بدلًا من إهدار المال على إخوته الذين لم يعتبروا ذلك دينًا يومًا، حسب قولها.
وبعد هجرة زوجها لم تنجُ هذه الزوجة العشرينية من تسلط حماها، وتدخل العائلة في تفاصيل حياتها، وإلزامهم إياها على العيش في بيت العائلة؛ بحجة أنهم أولى بتربية أبنائها (أحفادهم). وكلما اعترضت وجدت نفسها أمام أشكال وألوان من التعنيف اللفظي كالسب والشتم ومحاولة منع أطفالها عنها عندما تذهب لزيارة بيت أبيها ليوم أو يومين.
نسمة ليست الوحيدة التي عانت من هذا الظرف، بل إنّ معظم مجتمع النساء اللواتي هاجر أزواجهن، كن قد عانين من العنف قبل هجرة الأزواج، فيما توسعت دائرة المعنفين بعد الهجرة. وهو ما تجلى في نتائج البحث بوضوح، إذ تبين أنَّ (86%) من الزوجات تعرضن للعنف من أزواجهن قبل الهجرة فيما هبطت نسبة المعنفات من الزوج بعد هجرته إلى (23%).
وتصدر أهل الزوج الجهات التي قامت بتعنيف النساء بعد هجرة أزواجهن بنسبة (46.5%) من الجهات الأخرى، فيما كانت النسبة ذاتها قبل هجرتهم (34.2%). أما نصف أولئك فقد عانين العنف من أهلهن بنسبة (26.7%) بينما لم يكن معدل تعنيف أهل الزوجة لها قد تجاوز (7.9%) قبل هجرة زوجها.
بالإضافة إلى ذلك، تعرضت (24.8%) من النساء للتعنيف من شخص في الحي أو الجيران، فيما لم تتعرض النساء لذلك النوع من التعنيف قبل هجرة أزواجهن إلا نسبة (3.5%) فقط. أيضًا لم تسلم الزوجات الذين هاجر أزواجهن عنهم من تعنيف أقارب الزوج كالعمّة أو الخالة وغيرهم، وذلك بنسبة (17.8%) بعد هجرته فيما عانت (4.4%) منهم من ذلك قبل الهجرة.
ترى رندا أحمد (31 عامًا) التي هاجر زوجها عنها قبل عدّة سنوات، أنّ هناك ارتباطًا قويًا بين شكل هجرة الزوج سواء دائمة أو متقطعة وبين الوضع الاجتماعي والنفسي التي سيفرض نفسه على زوجته وأبنائه.
وتقول أحمد التي تجرعت على إثر هجرة زوجها أشكالًا من المعاناة، واضطرارها للعمل في رياض الأطفال وهي التي تحوز شهادة البكالوريوس في المحاسبة، إضافة إلى جلادتها على صنوف من تعنيف أهل زوجها لها حسبما قالت، إنّها وأبنائها تحملن الضرب والإيذاء والتهميش والاستغلال والطرد، نتيجة غياب زوجها بشكلٍ دائم عنهم.
"أنا الكنّة الأولى في بيتِ حماي، وكان زوجي هو شريك أبيه في المال والقرار، ونتيجة لذلك كنتُ أحظى باحترام ومكانة رفيعة في العائلة، لكن كل شيء انقلب 180% بعد هجرة زوجي وانقطاع تواصله معنا. أخذوا الشقة التي نقطن فيها أنا وأبنائي الأربعة، وأصبحنا لاجئين في بيت أبي لأجل غير مسمى" قالت رندا.
وتظهر الدراسة أن (82%) من الأزواج الذين هاجروا، ذهبوا في هجرةٍ دائمة ولم يعودوا كزوج رندا، أما (18%) منهم هاجروا هجرةٍ متقطعة، انقسمت إلى جزئين، جزءُ منهم يأتون في زيارات مرة كل عام وقد شكّلوا ما نسبته (10.2%) وجزءُ آخر هجرتهم متقطعة بفجوةٍ أكثر اتساعًا إذ يعودون في زيارات كل عامين أو أكثر وذلك بمعدّل (7.8%).
ويبدو أن تحوّل شكل الحياة من اللمّة في بيتٍ واحد، على مائدة الطعام حينًا، أو سهرة المساء حينًا آخر، إلى اللمّة على مكالمة "فيديو" منه، قد يبدو أكثر نعيمًا وترفًا من انقطاعه إلى غير رجعة، فتصبح الزوجة أمًا وأبًا لأطفالها الذين غاب أبوهم عنهم.
تحتفظ رندا بصورتهما معًا خلفيةً لهاتفها على الرغم من انقطاع تواصله منذ عامين بشكلٍ دائم. تقول، إنها لم تتلقَ منه رسالة منذ كان في السويد، "بعضهم قال إنه غادر السويد، وبعضٌ آخر أخبرنا أن وضعه المادي سيء جدًا، وهناك مَن يقولون إنه تزوج لذلك لا يتصل ولا نعرف عنه شي".
لكنها وعلى الرغم من شبه تأكدّها من حقيقة الاحتمال الأخير، لمعرفتها المسبقة أن تواصله مع أهله ما زال موصولًا وإن كان شحيحًا؛ إلا أنها تُحارب يقينها بشكٍ دائم على أمل عودته وتقول وهي تنزف دمعًا، "ليس من أجلي، ولكن من أجل هؤلاء الأبناء، أليس حرامًا أن يكبروا دون أب؟".
الكثير أيضًا عانين ضعف تواصل أزواجهن معهن بعدما هاجروا، إذ تجاوزوا الثلثين بكثير، وجاءت نسبة الزوجات الذين لم يتواصل معهن أزواجهن البتة (82.4%)، كما قالت نحو (9.4%) إن أزواجهن تواصلوا معهن لمرة واحدة، بينما كانت النسبة الأقل للذين يتواصلون مرات عديدة وجاءت بمعدّل (8.2%) من مجمل الزوجات.
في هذا السياق، قالت المحامية الشرعية آية الوكيل إن القانون الفلسطيني يُبيح للزوجة التي يقطع زوجها المسافر الاتصال بينهما، أن ترفع دعوى تفريق للضرر من الغياب، ولكن بشرط أن تُرفع الدعوى بعد مرور عام كامل على غياب الزوج، وعلى إثرها تحتفظ الزوجة بكافة حقوقها المالية وتحصل في حال عودته.
وتنصّ المادة (123) من قانون الأحوال الشخصية على أنه "إذا أثبتت الزوجة غياب زوجها عنها أو هجره لها سنة فأكثر بلا عذر مقبول، وكان معروف محل الإقامة. جاز لزوجته أن تطلب من القاضي تطليقها بائناً إذا تضررت من بعده عنها أو هجره لها ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه".
أما أن تتحمل الزوجة تبعات الغياب الطوعي للزوج عن بيته وأطفاله، فإنّ القانون لم يتضمن ما يجبرها على ذلك، فيما لم يُلزم الزوج على تحمل الأعباء أيضًا، لكن المسألة أخلاقية بحتة. غير أنه ألزم الزوج بالإنفاق على الزوجة والأبناء.
وفيما يتعلق بالإنفاق، فهو ما تطرق إليه القانون تحت اسم "النفقة" وفي هذه الحالة يمكن للزوجة رفع أمر منع سفر يفرض عليه عدم مغادرة البلاد ما لم يكفله كفيل مالي. أما في حال سافر ولم يتحمل الأعباء المادية لأسرته، فيمكن للزوجة أن تستفيد من صندوق النفقة الفلسطيني، ويمكنها رفع قضية "استدانة نفقة الأولاد" على أقرب العصبات وهو الجد أو العم مثلا، للإنفاق على الأبناء إلى حين عودة أبيهم.
وحول اتكالية الأزواج المهاجرين على زوجاتهم، في تدبر أمورهم وأطفالهم، ومدى تهديد ذلك بشكل مباشر لاستقرار الحياة الزوجية. قال محمد هاني استشاري الطب النفسي والعلاقات الزوجية، إن أكبر خطأ يقع فيه أحد الشريكين أن يُعوّد أحدهما الآخر على نمط حياة خاطئ ليصبح مع الوقت حقًا مكتسبًا للطرف المخطئ، ويتحمل الشريك تبعات ذلك طوال حياته، لأن من تعود على شيء لا يستطيع تغييره بسهولة وقد يتحول إلى جزء من شخصيته.
وأكد هاني، أن الأذى النفسي للزوجة يتضاعف عندما تتحمل كل المسؤوليات ولا تلقى تقديرا من شريكها ليشعرها بأنه مدين لها بالفضل لأنها ترفع عنه أعباء يفترض أن يتحملها وحده، أو على الأقل يشاركها فيها، فالمسؤوليات الجسام عندما يتحملها الطرف الضعيف وتصبح فرضا عليه تهدد الحياة الأسرية.
يتقاطع قول المختصة النفسية والأسرية عروب الجملة، مع سابقها في التأكيد على أن غياب الأب في حال سافر أو هاجر يخلق فجوة في علاقته مع الأبناء وهو ما يرتبط بعدّة عوامل، أهمها التواصل واستمرار المودّة والاهتمام فإذا لم يحافظ الأب الغائب جسديًا على تواصله مع الأبناء في عصر تعدد فيه وسائل التواصل محليا ودوليًا فإنّ الأمر يتسبب بإرباك وتوتر في العلاقة.
وقالت الجملة إن غياب الأب الاختياري وغير المبرر يؤثر بالسلب على نفسيات أبنائه ودراستهم وفكرهم ويحمّل الزوجة أعباء إضافية في الأسرة من أداء دورها كأم إلى شغل مكانه كأب، كما يؤثر غياب الزوج غير الاضطراري على العلاقة الزوجية بشكلٍ عام ومستقبلها، خاصّة في حالة عدم تواصله مع زوجته أو تواصله بشكل ضعيف جدًا؛ ما يتسبب في وجود مشاكل دائمة بينهم وهو ما يُخشى أن يؤدي تفاقمه إلى الطلاق وبالتالي تفكك الأسرة.
أمام هذا الواقع، نجد أن هجرة الأزواج من قطاع غزة تعكس مشاكل اقتصادية واجتماعية متراكمة تؤثر على حياة الأسر وتهدد استقرارها، لاسيما إذا لم يأخذ الزوج المهاجر دوره كأب للأسرة فيلقي بكامل الأعباء على عاتق زوجته.
بين النساء اللواتي تجاوزن التحديات وأخريات تكابد عناء الظروف المادية والنفسية، يبقى جمع شمل الأسرة مجددًا هو حلم كل النساء اللواتي هاجر أزواجهن.
هجرة الأزواج