يعمل عمر اسماعيل (29 عامًا) في أحد المحال التجارية، أكثر من (12) ساعة يوميًا بمقابل أجر مالي زهيد، وصفه بـ "الملاليم" ساخرًا من سوء وضعه الاقتصادي الذي يجبره على الاستدانة من أجل تغطية نفقات أسرته.
اسماعيل متزوج ويُعيل أسرة صغيرة إلا أن الأجر الذي يتقاضاه لا يكفي لتوفير أدنى متطلبات معيشته، ويقول: "أقضي كل وقتي في العمل، وأعود مساء إلى البيت لأنام واستجمع قواي للغد، لا وقت لشيء، لا أنشطة اجتماعية ولا حياة طبيعية(..) كل هذا بمقابل ألف شيكل شهرياً".
وعلى الرغم من هذه المعاناة اليومية، إلا أن إسماعيل يجد نفسه مضطرًا لهذا العمل في ظلّ ارتفاع معدل البطالة بشكلٍ كبير في القطاع، ومحدودية فرص عمل الشباب.
هذا الشاب وغيره من العاملين في المحال التجارية، ليسوا الفئة الوحيدة في قطاع غزة التي تتقاضى راتبًا أقلّ من الحدّ الأدنى للأجور، الذي حدّده مجلس الوزراء الفلسطيني برام الله في قراره عام 2012، وعدّل عليه عام 2021، بـ (1880) شيكلا نحو (580) دولارًا أمريكيًا شهريًا، و(85) شيكلاً للأجر اليومي، و(10.5) شيكل أجر عن ساعة العمل الواحدة.
غير أنّ هذا القرار يواجه تحدٍ كبير أمام تطبيقه في الأراضي الفلسطينية بشكلٍ عام وقطاع غزة على وجه الخصوص، يأتي ذلك في وقت كشف فيه تقريرًا صادرًا عن مركز إعلام حقوق الإنسان والديمقراطية "شمس" في مايو 2023م، أنّ 40% من العاملين بالقطاع الخاص، يحصلون على أجرٍ أقل من الحدّ الأدنى للأجور المقرر من قبل مجلس الوزراء.
وتعد الضفة الغربية سوقاً مفتوحاً أمام العمال، إذ تتعدد الخيارات والقطاعات على عكس قطاع غزة الذي يعيش حصارا اسرائيليا منذ 17 عاماً ويعاني انعداما في فرص العمل ومحدودية في الدخل بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة.
ومن الواضح أن الامتناع البتة من قبل أرباب العمل والمنشأة الصناعية والتجارية في قطاع غزة بشكل خاص، عن تنفيذ قرار الحدّ الأدنى للأجور يُفاقم بشكل فعلي من أزمة العمال الذي يعانون ظروفا معيشية صعبة، والتي أجبرت المئات منهم على الهجرة، حيث تشير تقديرات إعلامية إلى أن الشبان المغادرين القطاع، في الشهرين الأخيرين، قد شهد زيادة ملحوظة قياساً لهجرة قرابة (860.632) هاجروا ما بين عام 2007 ونهاية عام 2021.
بموازاة ذلك، ترى وزارة العمل في قطاع غزة وعلى لسان مدير وحدة العلاقات العامة المهندس شادي حلس، أنّ قرار مجلس الوزراء فيما يخص الحد الأدنى للأجور، لم يراعِ خصوصية واقع القطاع ووضعه الاقتصادي المتردي، "لذلك فإن لتطبيقه أبعادًا سلبية" كما قال.
وأضاف حلس: "إن وزارة العمل بغزة حريصة على الحدّ من الآثار السلبية لتنفيذ قرار مجلس الوزراء في رام الله، وذلك من خلال سعيها لإقرار معقولية الأجر، بما يُلبى الحدّ الأدنى لمتطلبات مستوى حياة كريمة للأسرة في قطاع غزة".
ويبدو واضحاً أن هناك انسجاماً كبيراً بين موقف وزارة العمل بغزة، ونقابة العمال التي هي من الأصل جهة يناط بها الدفاع عن حقوق العمال، حيث يتقاطع قول نقيب العمال في القطاع سامي العمصي، مع سابقه في التأكيد على أن الدراسات التي أُجريت للاتفاق على حدٍّ أدنى للأجور "تمت في الضفة الغربية وبناءً عليها وُضِعت قيمته، فيما لم تراعي الوضع الاقتصادي في غزة والفروقات في معدل الفقر والبطالة وغيرها" كما قال.
يعتبر العمصي أنّ واقع الظروف الاقتصادية في قطاع غزة واحد من أهم معايير تحديد الحدّ الأدنى، وهو ما استدعى تحديد قيمة للحدّ الأدنى للأجور في القطاع مغايرة عما أُقرَّ في الضفة الغربية، حسب رأيه.
وتؤيد نقابة العمال قرار تشكيل لجنة في غزة؛ لتحديد حدّ أدنى للأجور يتوافق مع ظروف القطاع، ويرى العمصي أن في ذلك حماية لحقوق العمال، أما حول مدى "قانونية" الإجراء، يقول العمصي، "أتاح القانون بأن كل منطقة داخل حدود جغرافية البلد لها وضعيتها الخاصة".
هذه القيمة (1880) التي ترى فيها وزارة العمل ونقابة العاملين على حدٍ سواء، أنها أجر يتناقض مع الظروف الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها سكان القطاع، يراها عاملين أنها أقل بكثير من فاتورة الاحتياجات الشهرية وبخاصة لدى أولئك العمال الذين يعيشون في مساكن بالإيجار، مؤكدين أن هذه القيمة غير مبالغ فيها على الإطلاق.
وعبر ناصر أحمد (32 عاماً) ويعمل نادل في أحد مطاعم قطاع غزة، عن رفضه اعتبار أن قيمة 1880 شيكلًا كحد أدنى للأجور، بأنها قيمة باهظة ولا تناسب ظروف الحياة الاقتصادية في غزة.
وقال العامل أحمد: "الذي يعتبر أن هذه القيمة مبالغ فيها، وكأنه يغمض عينيه عن قيمة الإيجار الشهري 600 شيكل، فضلا عن فاتورة الكهرباء والمولد والانترنت والماء واسطوانات الغاز واحتياجات الدواء والطعام والشراب ومصروف مدرسي ومواصلات واتصالات، بالإضافة إلى قائمة مشتريات لا حصر لها".
وأضاف أحمد وهو حاصل على شهادة إدارة الأعمال من جامعة الأزهر، ولم يحظ بفرصة عمل توازي شهادته العلمية، "من يعي حقيقة الواقع يدرك أن هذه القيمة لا تغطي احتياجات أسرة تتكون من سبعة أفراد، فلذلك من باب أولى أن يعطى العامل حقه بأجر يراعي متطلبات الحياة الكريمة، لا أن يظل يدفع ضريبة الفقر والعوز طوال العمر".
في الأثناء، يقول محامي مركز الديمقراطية وحقوق العاملين في غزة علي الجرجاوي، إن غياب تطبيق قانون الحدّ الأدنى للأجور يزيد من الانتهاكات ضدّ العمال الذين يعانون واقعًا قاسيًا في ظلّ ذلك إضافة إلى غياب قوانين تُلزِم المؤسسة أو رب العمل بإرجاع العامل إلى عمله في حال فصله.
وهو ما يضطر الكثير من العمال إلى الرضوخ لواقع العمل دون مقدرتهم على التقدم بشكوى خوفًا من الفصل، بينما تقف النقابة عاجزة عن التوصل لحلٍ لهم في هذه الظروف، وفقًا للعمصي الذي قال إنهم لا يستطيعون اتخاذ أيّة إجراءات في حال لم يتقدم العامل بشكوى.
لذلك، يقول الجرجاوي إن وزارة العمل سعت في إطار حماية حقوق العمال في قطاع غزة، ووضع إلزام قانوني لأصحاب العمل، إلى تشكيل لجنة لوضع حد أدنى للأجور بالشراكة مع عددٍ من الوزارات والنقابات ذات العلاقة.
وبناءً عليه، قامت وزارة العمل في غزة، بتشكيل لجنة للأجور في مارس 2023، مهمتها إقرار قيمة الحدّ الأدنى للأجور في قطاع غزة، وتستند الوزارة في قرارها، وفقًا لما أشار إليه مدير وحدة العلاقات العامة في وزارة العمل في غزة شادي حلس، إلى المواد (86)، (89)، من قانون العمل الفلسطيني.
ويوضح حلس الدور الذي تقوم به اللجنة، وهو دراسة واقع الأجور، واقتراح حدّ أدنى للأجور يتوافق مع واقع قطاع غزة في ظلّ الظروف المعيشية الصعبة، ثم ترفع توصياتها للإقرار من قبل المجلس التشريعي.
أما أهم محددات الحدّ الأدنى للأجور التي استندت إليها اللجنة، بحسب حلس، فقد تمثلت في خط الفقر، معدلات الإعانة، مستوى التضخم، أسعار المواد الغدائية، والظروف المعيشية بواقع الأسرة الفلسطينية.
غير أنّ اللجنة تسعى إلى إقرار حدٍ أدنى للأجور لكل قطاع اقتصادي على حدا، وهو ما يراه المحامي الجرجاوي غير منصفًا للعامل، مشيرًا إلى ضرورة أخذ تردي الظروف المعيشية لقطاع غزة بعين الاعتبار وليس الأوضاع الاقتصادية للمنشآت والمؤسسات.
وقد عُقدت اجتماعات دورية ومستمرة للجنة الأجور على مدار 7 -8 شهور منذ تشكيلها من قبل مجلس الوزراء واللجنة الحكومية في قطاع غزة، وهي تتكون من 15 عضوًا، تضم ممثلين من وزارة العمل، وزارة التخطيط والإسكان، وزارة الاقتصاد، وزارة المالية، وزارة العدل، وخمسة أعضاء ينوبون عن النقابات العمالية والمهنية، وخمسة أعضاء ممثلون عن أرباب العمل.
وبحسب وكيل وزارة العمل إيهاب الغصين، اجتمعت لجنة الأجور في إبريل الماضي بحضور أطراف الإنتاج الثلاثة (أصحاب العمل والحكومة ممثلة بوزارة العمل وممثلون عن العمال). إلا أنها لم تتوصل حتى اليوم إلى قرار بشأن تحديد قيمة الأجور. فيما لم يحدد الغصين سقفًا زمنيًا لإصدار القرار.
وتواجه الوزارة عدّة تحديات قبيل إقرار القرار، وفقًا للغصين الذي بيّن أنّ من أهمها قلة الكوادر البشرية إذ تمتلك دائرة التفتيش 19 مفتشا يراقبون على 45 ألف منشأة فاعلة.
كما تواجه اللجنة تحديًا في قرارها يُشير إليه نقيب العمال العمصي، وهو معارضة أرباب العمل لها؛ نتيجةً لما يُعانونه ومنشآتهم من الشركات والمصانع وغيرها من انهيار اقتصادي يُصيب عصب عملهم.
ويسعى القائمون على لجنة تحديد الأجور، إلى التوصل إلى قيمة تتناسب مع العمال ومصالح أرباب العمل، بحسب العمصي الذي أشار إلى أنه من المتوقع الإعلان عن قيمة الحد الأدنى للأجور في قطاع غزة خلال الأشهر القادمة.
ويقول العمصي، "سنسعى لضمان تطبيق قرار لجنة الأجور لحماية حقوق العمال، بما لا يتعارض مع مصالح أصحاب العمل، وضرورة تشكيل لجان لمتابعة ومراقب تنفيذ القرار".
أمام هذا الواقع الذي يعاني فيه العمال من الحرمان من الأجور المستحقة بسبب استغلال بعض أرباب العمل لفكرة الظروف الاقتصادية الصعبة واحتياج العمال الماس لفرصة تدر عليه ولو الندر اليسير، وإلى حين صدور قرار وزاري يضمن تطبيق الحد الأدنى للأجور حتى لو كان أقل قيمة من الحد في الضفة الغربية، سيبقى العمال يعانون الأمرين.
الحدّ الأدنى للأجور