الأخطاء الطبيّة: جرائم صامتةٍ وقانون طورِ النمو

الأخطاء الطبيّة: جرائم صامتةٍ وقانون طورِ النمو

في العشرين من سبتمبر 2018 تعرّض المواطن الفلسطيني فادي حيدر (33 عاماً)، إلى حادث سير على الطريق صلاح الدين الواصل بين أقصى جنوب قطاع غزة وشماله؛ الأمر الذي استدعى إلى نقله عبر سيارة الإسعاف إلى المستشفى على إثر تعرض ساقه اليسرى للكسر.

مكث المواطن حيدر وهو من سكان مخيم خانيونس جنوب القطاع، يومين متتالين في أحد المشافي الحكومية جنوب القطاع، حتى قرر الأطباء إجراء عملية جراحية من أجل تركيب مسامير معدنية (بلاتين) للمساعدة في التحام العظام.  

إلى حينه لم يكن هناك أي مؤشرات أو احتمالات خطر على حياته نتيجة الإصابة، غير أنه بعد دخوله غرفة العمليات والتي من المفترض أن يمكث فيها ساعة ونصف حسب تأكيد الأطباء ومن ثم الانتقال إلى قسم العظام للمكوث عدة أيام للاطمئنان على صحته، إلا أنه جرى نقله بعد ست ساعات متواصلة إلى قسم العناية المكثفة. يومان قضاهما في حالة الخطر الأمر الذي استوجب نقله إلى إحدى مشافي الضفة الغربية لتلقي العلاج، غير أنه عاد بعد خمسة أيام يغط في غيبوبة استمرت 5 سنوات.

ينحدر الشاب حيدر من عائلة بسيطة لم تجرأ على التقدم بطلب إلى وزارة الصحة للتحقيق في الحادثة، والاستعلام عن ماهية الخطأ الطبي الذي أدوى بابنها إلى هذا الحال، وقد استمر على هذا النحو حتى فارق الحياة.

هذه حادثة واحدة من عشرات الحوادث التي وقعت مع أشخاص، أغلقت ملفاتهم دون أن تصنف كأخطاء طبية، في المقابل هناك حالات أخرى دخلت إلى المستشفى لعلاج أمراض بسيطة وخرجت بأضرار جسيمة، لم تستلم وباشرت باتباع الإجراءات القانونية للوقوف على حقيقة الخطأ الطبي الذي تعرضت له، أو على الأقل قدمت شكاوى طرف الجهات الرسمية والأهلية.

ومنذ عامين فقط تلّقت وزارة الصحة الفلسطينية (58) شكوى تتعلق بالأخطاء الطبية، فيما تلقت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ست شكاوى خلال الفترة نفسها، ذلك وفقا لتقرير أصدرته مؤسسة الضمير حول واقع الأخطاء الطبية في قطاع غزة.

ويكفل القانون الأساسي الفلسطيني لكل فرد الحق في الرعاية الصحية دون مساس بحقه في الحياة، وكذلك الحق في العلاج السليم دون ارتكاب الاهمال في حق صحته، إلا أن قضية الأخطاء الطبية والإهمال الطبي تطفو بين الفينة والأخرى على السطح وتصبح مثار حديث الشارع ووسائل الإعلام؛ للمطالبة بالمساءلة، وتشكيل لجان للتحقيق في أصل الأخطاء الطبية.  

يظهر تقرير صدر عن في ائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة- أمان عام 2022 أن عدد لجان التحقيق التي تم توثيقها في وزارة الصحة الفلسطينية في غزة خلال الفترة (2015-2021) حول الأخطاء الطبية، بلغت 299 لجنة في القطاعين الصحي الحكومي والخاص. وبناءً على نتائج لجان التحقيق بلغ عدد الجزاءات في القطاع العام 318 جزاءً، بينما بلغ عددها في القطاع الخاص 109 جزاءات.  

أمام هذا الواقع، ومن أجل تحسين واقع المساءلة حول الأخطاء الطبية في غزة، أوضحت منسقة المناصرة والمساءلة المجتمعية في ائتلاف (أمان) مروة أبو عودة، أن الائتلاف أطلق حملة بعنوان "واقع المساءلة في الأخطاء الطبية في قطاع غزة" تقوم على التدخل في سبيل التقليل من الأخطاء الطبية، والحد من إمكانية وقوعها، عبر تطوير الخدمات الصحية والبنية التحتية للقطاع الصحي الحكومي والخاص.

 وقالت أبو عودة: "تتعامل الحملة أيضا مع الجهات العاملة في القطاع الصحي؛ في إطار كيفية التعامل مع الآثار المترتبة على الأخطاء الطبية، بما يكفل وجود مساءلة فاعلة وموضوعية"، بالإضافة إلى أهمية رفع وعي المواطنين حول أهمية دورهم في الابلاغ عن حوادث الأخطاء الطبية أو الاهمال الطبي، بالتوازي مع عقد روش عمل للعاملين في القطاع الصحي الحكومي والخاص.

منذ جائحة كورونا عام 2020م وحتى إعداد هذا التقرير تلقى ائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة -أمان ما يقارب من 124 طلب مشورة من المواطنين حول تظلماتهم نتيجة الاهمال الطبي أو الأخطاء الطبية، وفقًا لحديث أبو عودة.

في المقابل، يشير نقيب الأطباء في قطاع غزة الدكتور محمد حلس، إلى أن آلية التعامل مع الشكاوى التي يتلقاها المجلس التشريعي أو النيابة العامة أو مراكز حقوق الإنسان، تقوم على قاعدة تشكيل لجنة فنيّة متخصصة من قبل وزارة الصحة، تضمّ طبيبين من الوزارة، واثنين أخريين من نقابة الأطباء ذوي العلاقة والاختصاص، مع جواز الاستعانة بمن تراه اللجنة مناسبا، وتكون مهمتها التحقيق في الحادثة بهدف الوصول الى الشفافية والموضوعية في معالجة الشكوى.

انسجاماً مع حالة البحث عن الحماية والسلامة الطبية والصحية، أقرت السلطة الفلسطينية برام الله قانوناً قبل خمس سنوات صنف بأنه (قرار بقانون رقم 31 لسنة 2018) يتناول قضية الأخطاء الطبية في إطار قانوني لتحقيق نظام فعال ومساءلة عادلة، ورغم سريان تطبيقه في الضفة الغربية إلا أنه معطل في المناطق الجنوبية (قطاع غزة).

وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، يشير أمجد الأغا مدير عام الشؤون القانونية في المجلس التشريعي، إلى أن هناك غيابًا للمنظومة القانونية التي تشكل مرجعية لأحكام الأخطاء الطبية، مبينا أن الخطأ الطبي يتخذ ثلاثة أبعاد قانونية؛ الجزائي، المدني، والتأديبي. ويُفصِل "نلجأ إلى القانون المدني التعويض عن الضرر في وقوع خطأ طبي، في حال إهمال أو حالة وفاة يتم التعامل على أساس العقوبات الجزائية".

وبشكل عملي، فإن المجلس التشريعي في غزة يدرس مسودةً لقانون المساءلة الطبية، بناءً على طلب مقدم من قبل وزارة الصحة 2022م، والقانون موضع الدراسة هو استنساخ للقانون (31) عام 2018م، مع تطويره وإجراء التعديلات والاضافات التي تراعي خصوصية المحافظات الجنوبية (قطاع غزة).

المتفصح للمشهد الصحي العام في قطاع غزة، يدرك حقيقة أنه لا يعاني فقط من غياب قانون المساءلة الطبية فحسب، وإنما يعاني أيضا تدهوراً بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض للعام السابعة عشرة على التوالي، والذي أثر بالسلب على القطاع الصحي على المستويين الفني والتقني وتطوير الكفاءات والقدرات، حيث يعاني هذا القطاع من عجز في الأدوية، والأجهزة المتهالكة والمعدات الطبية وخاصة التشخيصية منها، وفقاً لإفادات وزارة الصحة بغزة.

وبعيداً عن تردي القطاع الصحي، فإن نقيب الأطباء أكد أن هناك ترحيباً من المؤسسات الحقوقية بقطاع غزة بالقانون المطروح أمام المجلس التشريعي، على اعتبار أنه مطلب ضروري وملح للحد من تكرار الأخطاء الطبية، وإحقاق الحقوق للمواطنين. وكذلك حماية العاملين في القطاع الصحي الحكومي والخاص.

وقال حلس: "جرى العديد من النقاشات واللقاءات حول مواد القوانين المتعلقة بالأخطاء الطبية؛ بهدف تعديل وتطوير تلك المواد، بحضور كافة الجهات المعينة (المجلس النشريعي، النقابات ووزارة العدل، وزارة الصحة، والمؤسسات الحقوقية)، مع الاستفادة من مواد قوانين الدول المجاورة مثل مصر والأردن وغيرها".

وبالنظر إلى توجه المؤسسات الحقوقية والداعمة إلى تعزيز المساءلة في القطاع الصحي، فإن هناك توجهًا عامًا إلى حماية العاملين أيضًا في القطاع الصحي، وفقًا لما قالته منسقة الرصد والأبحاث في اتئلاف من أجل النزاهة والمساءلة -أمان هداية شمعون.

وقالت شمعون: "هناك بعض التوصيات والملاحظات التي قدمها اتئلاف أمان على مسودة القانون، من أهمها ضرورة وجود نص لتجريم الاعتداء على العاملين بالمؤسسات الصحية، وتشكيل لجنة مستقلة يتم اختيار الأعضاء وفقًا للمعايير والاختصاص، وضرورة تحديد آليات وأدوات مساءلة؛ لضمان الشفافية والمساءلة، كما ضرورة تناول موضوع التأمين وصندوق الجبر، وكيفية التعويض أو جبر الضرر في العيادات الخاصة منها".

بدوره، أكد المستشار "الأغا" على حرص المجلس التشريعي بغزة، الأخذ بعين الاعتبار كافة الملاحظات والتوصيات المقدمة، وتناول الحديث بالتفصيل عن التأمين وصندوق التعويضات، قائلًا "التأمين في قضايا الأخطاء الطبية، ينقسم إلى تأمين يُدفع من قبل الأطباء والعاملين في القطاع على غرار بند التأمين والمعاشات، ومن خلاله تساهم الحكومة بجزء من الأقساط".

وفيما يتعلق بالقطاع الصحي الخاص، يضيف الآغا، "تلتزم المؤسسة الصحية بدفع أقسام التأمين حسب ما هو وارد للنظام الداخلي لها والعقد الموقع مع الطيبب أو الوفود الزائرة"، مؤكدًا على تحمل المؤسسة الصحية التغطية التأمينية للأخطاء الطبية الصادرة عن أطبائها.

صندوق الجبر والتعويض، ومهمته تعويض ما لحق بضرر بمتلقي الخدمة الصحية سواء كان المريض نفسه أو ذويه في حالة وفاة المريض، ويتم تمويل الصندوق من تأمنيات الأطباء العاملين بالمؤسسات الصحية بالقطاعي الحكومي والخاص، وقيمة الغرامات المحكوم بها وفقا للقانون، هذا ما اتفق عليه كلٍ من أمجد الآغا وهداية شمعون، إلا أنّ منسقة الرصد والدراسات في ائتلاف أمان، طالبت بتخصيص جزء من الموازنة العامة لوزارة الصحة لصالح الصندوق.

وتجتمع الجهات المعنية على أهمية القانون في تحقيق مبدأ المساءلة، على أساس تلقي خدمات صحية جيدة ووجود محاسبة وعقاب وتعويض الضرر في حال ثبت وجوده، وبنفس الوقت حماية للعاملين في القطاع الصحي، مع ضرورة زيادة الوعي الثقافي حول قضية الأخطاء الطبية.

قانونٌ يُدرس ويُناقش لتحسينه وتطويره؛ بهدف تنظيم المنظومة القانونية للقطاع الصحي، وعلى الجبهة الأخري، جدلية قائمة حول مسؤولية الأخطاء الطبية على من تقع؟. رغم أن أصابع الاتهام تتجه نحو الأطباء بالدرجة الأولى، إلا "أن العامل البشري ليس وحده هو المسؤول"، يوضح أحمد شتات مدير عام التخطيط وجودة الأداء المؤسسي في وزارة الصحة في غزة.

وأضاف شتات: "قضية الأخطاء الطبية قضية عالمية معقدة، وعند تحليلها نجد أن عامل النظام، وعامل القانون وغيرها لها دور أيضا في القضية".

ويحاول مدير عام التخطيط أن يبرهن على كفاءة الأطباء بقوله: "خلال الشهر الماضي حصد الأطباء الفلسطينون من قطاع غزة المراكز الأولى في اختبارات التخصصات الذي يعقده المجلس الطبي العربي، وهو لجميع الدول العربية، ويمنح هذا المجلس درجة الاختصاص في مجال محدد في مجالات الطب المختلفة بعد تدريب 4-5 سنوات"، معتبرًا ذلك برهانًا على جودة برامج تدريب الأطباء.

بلغ عدد الأطباء المسجلين في نقابة الأطباء في قطاع غزة لعام 2021م، 6,053 طبيبًا، وما يقارب من 10,984 ممرضًا، موزعون على 35 مستشفى، منها 13 مستشفي حكومي ، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء.

ووفقاً لوجهة نظر "شتات" فإن قطاع غزة بحد ذاته يعد بيئة غير جاذبة للكفاءات المميزة من الناحية المادية، "رغم العقبات التي تواجه الأطباء في غزة من رواتب متواضعة، خيارات سفر وابتعاث قليلة إلا أن أداء المنظومة الصحية بأطبائها استطاع التخفيف من تكاليف وتحويلات العلاجية للخارج، والتقليل من معاناة المواطنين في السفر"، على حد قوله.

وحول الأخطاء الطبية في القطاع الصحي في غزة، يقول شتات "الأنظمة الصحية ناضجة وتتبنى استراتيجيات تسعى لتقليل الأخطاء الطبية، التي معظهم "غير مقصودة"، وفي حال حدوثها يتم الافصاح عنها"، ويشرح شتات آلية التعامل في الكشف عن الأخطاء الطبية، عبر لجان الجودة التي تقوم بمراجعة كافة ملفات المرضى بشكل شهري، وفي حال اكتشاف احتمالية وجود خطأ طبي، يتم توجيه الملف إلى لجنة فنية مختصة لمتابعة الموضوع، وتقديم توصيات لتفادى تكرار حدوثه.

يتفق بكر التركماني منسق التحقيقات والشكاوى في الهيئة المستقلة مع شتات بأن الخطأ الطبي جريمة يُعاقب عليها القانون، ويضيف التركماني أن الخطأ لصيق العمل الطبي في أنحاء العالم، لكوننا بشر نصيب ونخطئ.

"الخطأ الطبي ليس ناتجًا عن الطبيب دائما" يوضح التركماني، ويستكمل بأن التحاليل التي تسبق عمليات التشخيص هي جزء أصلي من عملية الخطأ.

ويعتبر التركماني مسؤولية الخطأ الطبي هي مسؤولية تكاملية بين المؤسسة الصحية والطبيب، خاصًا أن أغلب الأخطاء ناجمة عن أخطاء في التشخيص، وعليه فالمؤسسة الصحية هي المسؤولة أمام المواطن.

ولتقليل هامش الخطأ، يوصى التركماني بتطوير المستوى الفني والتقني للكوادر الطبية، عدا تطوير القدرات والإمكانات من معدات وأجهزة طبية، وتشكيل لجان متخصصة ومستقلة، متهمتها التحقيق في قضايا الأخطاء الطبية، ومعالجتها.