لسنوات يظلّ الخريج في قطاع غزة "باحث عن عمل" دون أمل العثور على وظيفةٍ تُلائم شهادته الجامعية، يتملكهم اليأس والقهر على أحلامٍ وطموحات تتبدد أمام أعينهم، ويُغيِّر واقع انعدام فرص التشغيل مسارات حياتهم إلى غير رجعة.
اليوم في غزة، يجتمع العمال في محلٍ تجاري، هذا يحمل شهادة في التمريض، وزميله في الهندسة، وغيرهم في إدارة الأعمال يعمل سائق سيارة أجرة، وغيرهم ممن أكل الغبار شهادتهم الجامعية في بلادٍ لا تُقدِّر الكفاءات كما ينعتها الخريجين، الذين يهربون إلى فرص "العمل عن بعد" المتذبذبة أو إلى أعمال مياومة بأجور زهيدة.
الكثير منهم يُصاب بالإحباط ويدخل في صراعاتٍ نفسية غير منتهية، ومنهم مَن يرى في معبر رفح حيث الهجرة وجهته الأخيرة، أما الأشد خطورة أولئك الذين يُفكرون في الخلاص بعدما يُنازع روحه لسنوات على أمل إحداث تغييرٍ ما.
عبد الله داوود (29 عامًا) شاب من مدينة غزة، تخرج بشهادة تمريض، فجازف بحياته هربًا من المحاولات الفاشلة، يقول، "قررت الانتحار، تناولت شريط من علاج والدي الخاص بضغط الدم، لأنني لم أستطيع تحمل حياة الفقر والذل في هذا البلد".
قبل ذلك فكر في الهجرة غير الشرعية جديًّا، لكن وضع عائلته المادي منعه كثيرًا خاصّة أنه من المستحيل أن يستطيعوا توفير المبلغ الذي طلبه، فخضع لفكرة الانتحار التي راودته عدّة مرات وكلما حضرت صورة والديه المرضى أمام عينيه كان يتوقف، حتى اتخذ قراره في لحظة يأس ولم يتردد أبدًا.
التفت أخته إلى حالته فأبلغت والدها على الفور وطلبا سيارة الإسعاف التي جاءت في الوقت المناسب تمامًا وأنقذته. نجى عبد الله من الانتحار لكنه لم ينجو من واقع غزة المعقد، منذ أن تخرج وبدأ يبحث عن عمل في كل مكان غير مكترثًا بقيمة الراتب ولو كان (100$ شهريًا)، على حدٍ تعبيره، لكن لا حياة لمن تنادي.
عبد الله الذي يودّع عقد العشرينات قريبًا دون أن يحظى بفرصة عملٍ لائقة، هو واحد من آلاف الشباب من سنّ (19- 29) يحملون شهادة الدبلوم المتوسط فأعلى ويشكّلون ما نسبته 70% من البطالة في قطاع غزة.
وكشف الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عن ارتفاع معدل العاطلين عن العمل من المشاركين في القوى العاملة إذ يصل إلى الربع، فيما بلغت نسبة البطالة في قطاع غزة بشكلٍ عام 46%، تُشكّل النساء حصة كبيرة منها بما نسبته 40% من مجمل بطالة فلسطين.
علياء خالد (26 عامًا) هي واحدة من هؤلاء الفتيات اللواتي تخرجن من تخصصٍ درسوه عن رغبةٍ وطموح، لكنهم وجدوا الأبواب الموصدة أمامهم بعد التخرج، تقول، "تخرجت من كلية الإعلام عام 2017، ومنذ ذلك الوقت بدأت أتلقى الدورات التدريبية وأصقل مهاراتي، وبعد مرور أربع سنوات بدأ اليأس يتسلل إلى داخلي ويتملكني".
وترتسم على وجهها ملامح الحزن والبؤس وهي تروي كيف يُعايرها المقربون في المجتمع بعدم استفادتها من شهادتها؛ مما يزيد شعورها بالإحباط والحزن على نفسها وقدراتها أمام واقع مزري، فترضخ أحيانًا وتقبل العمل سكرتيرة في عيادة طبيب أسنان لساعاتٍ طويلة مقابل راتبٍ زهيد لا يتجاوز الـ (100 دولار).
حتى اليوم ما زال بصيص الأمل يراودها في الحصول على وظيفة تناسب ميولها وقدراتها، وتشعر فيها بالاستقرار المهني والرغبة في العمل والمواصلة، فتقاوم صراعاتها وتواسي نفسها بأنّ الحلم قد يتحقق يومًا ما، فتتلقى الدورات في الإعلام "أون لاين" في ساعات الانتظار مع المرضى في العيادة.
تقوم علياء بهذا العمل الذي لا يرقى إلى ما نصّ عليه قانون العمل الفلسطيني عندما ضمِن حق العمل لكل مواطن قادر عليه في المادة رقم (2) منه، التي أوجبت على السلطة الفلسطينية توفيره على أساس تكافؤ الفرص ودون أي نوع من أنواع التمييز.
وهو ما يُشير إلى أن العمل في الأراضي الفلسطيني حق دستوري لكل مواطن، لكن تطبيق هذا العمل يشوبه الكثير من التحدّيات في الواقع الاقتصادي والسياسي الذي ينعكس على فرص العمل، وفقًا لما أشار إليه المحامي عبد الله شرشرة الذي أكّد على أنّ فرص العمل ضعيفة في السوق الفلسطينية، "وهناك إخفاق واضح في تجاوز الأزمة".
وقال شرشرة في حديثٍ مع "آخر قصّة"، إنّ مشكلة البطالة أصبحت شبحًا يُلاحق الشباب وذويهم، وأصبحت الحياة في غزة كابوسًا يؤرق الشباب المُكافحة التي أمضت سنوات شبابها دونما تحقيق جزء من أحلامها، فأصبح تكدّس أعداد العاطلين عن العمل يتجاوز كل النصوص القانونية التي تضمنه حقًا ملزمًا على السلطة الوطنية الفلسطينية.
كما اتفق معه المختص الاجتماعي أحمد حمد الذي نبّه إلى الكوارث التي نجمت عن البطالة في إهدار الموارد البشرية، وهدر الطاقات الكامنة، وتأثيراتها على الأمن الاقتصادي في فلسطين عامة.
وما ينتج عن ذلك من مشكلات اجتماعية كانحلال القيم وانتشار المشكلات الأخلاقية كالإدمان، وعزوف الشباب عن الزواج، وازدياد حالات الإصابة بالاكتئاب، وارتفاع معدل الهجرة للخارج، ونشوب المشاكل الأسرية وانتشار حالات الانتحار.
أمام هذا الواقع الذي يُنذر بتضخم الأزمة ويكشف عجز الحكومة على تجاوزها، يقترح المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر حلولًا قد تفيد في تفكيك الأزمة إلى حدٍ ما.
يحتاج التوصل إلى حلول في قضية البطالة إلى العمل على اتجاهين، الأول ضرورة خلق استثمار وفرص عمل حقيقة على أرض الواقع، خاصة في مجال القطاعات الاقتصادية الصناعية وافتتاح المصانع لتشغيل أيدي عاملة، وتنشيط الاستثمار الزراعي، وكذلك المهني في مختلف المجالات والقطاعات.
أما الآخر فهو تضييق الفجوة بين التخصصات الجامعية المطروحة واحتياجات سوق العمل من خلال مواكبة التطور كالتدريب على مجالات العمل عن بعد عبر الانترنت التي أصبحت ملاذًا للكثير من الشباب؛ مما ساهم في انتشار العمل بالتجارة الالكترونية والعملات الالكترونية التي راجت كثيرًا بعد جائحة كورونا.
وحول دور وزارة العمل في توفير سبل لعمل الشباب عبر الانترنت، قال مدير دائرة التوجيه والإرشاد في الإدارة العامة لخدمات التشغيل في الوزارة صالح صهيون، إنّ وزارته تتبع استراتيجية لتعزيز العمل عن بعد، لكن المختص الاقتصادي أبو قمر أكد على أن وِحدة العمل عن بعد في وزارة العمل غير مُستَغلة بالشكل المطلوب.
وفسّر ذلك بقوله إنّ يفترض أن توجد الوزارة تعاقدات حكومية مع الدول الشقيقة، وتبني منصات للعمل عن بعد، وذلك لتسهيل حصول الشباب على وظائف من خلال الوزارة التي يقع على عاتقها فلترة الأسماء وإرسالها للجهات المعنية وتوجيه الطلبة نحو التخصصات المطلوبة.
تفيد هذه الطرق المدروسة بإيجاد حلول لكثير من الطلبة الذين أصبح جزء كبير منهم يفكر بعدم جدوى الدراسة الجامعية، أو قبول الخريجين منهم بفرص بالية، وعيش جزء آخر على فرص العمل المؤقتة التي لا تسمن ولا تُغني من جوع؛ مما يفاقم أزماتهم النفسية والاجتماعية.
الشباب والبطالة والحالة النفسية