يعد موسم بدء العام الدراسي الجديد وافتتاح المدارس واحد من أكثر المواسم تحدٍ أمام الأسر الفلسطينية في قطاع غزة، لا سيما الأمهات اللواتي يرأسن أسرهن ويعايشن ضغطًا نفسيًا ومعيشيًا كبيرًا على إثر محاولتهن توفير احتياجات أبنائهن المتوجهين للمدارس من ملابس وقرطاسية وغيرها.
داخل شقة سكنية متهالكة وسط قطاع غزة، تقطن الأربعينية فاطمة سعدي وزوجها، يرعون أطفالهم الثلاث (يوسف، سارة، وعلي)، ومع بدء العام الدراسي تزداد حدّة الأزمة المعيشية داخل البيت، نتيجة عدم مقدرة الأبوين توفير مستلزمات أبنائهم الأساسية كبقية زملائهم في المدرسة.
تقول سعدي في حديثٍ لـ "آخر قصّة"، "زوجي يعمل بشكل متقطع في البناء ولا يجني ما يكفي لسدّ رمقنا، مع فتح المدارس نحتاج تقريبا مئة شيكل لكل واحد من الأولاد حتى نستطيع كسوتهم، وبالطبع يصعب علينا توفير ذلك فأشعر بقلة الحيلة أمامهم وهم يطلبون منّي احتياجاتهم".
وعندما شعرت السيدة بالعجز وأدركت أنها لن تستطيع توفير لأبنائها كسوة جديدة، بدأت تؤمن ما يلزم أبنائها من ملابس العام الماضي لإعادة استخدامها من جديد، فتُرتق قميص هذا وبنطال ذاك، وتذهب بالحقائب للرتق عند الاسكافي المتخصص في هذه الأعمال.
أما طفلتها سارة التي تذهب للمدرسة للسنة الأولى، فبعد محاولة استمرت لشهر من جمع النقود التي ادّخرتها من عمل طفليها في بيع البراد والترمس خلال الإجازة الصيفية، استطاعت سعدي شراء حقيبة من البالة لابنتها حتى تمنح الصغيرة شعورًا بالبهجة وتحفزها للذهاب للمدرسة.
وعن توفير القرطاسية، قالت: "بحثت عن أرخص الأسعار في البسطات الموجودة في الشوارع العامة، واشتريت ما أستطيع شرائه، كنت طوال الإجازة متخوفة من قدوم المدارس لأنني أعرف طبيعة الضغط الذي سيقع على عاتقنا بسببها".
مثل فاطمة، هناك آلاف الأمهات يعشن هذا التحدي مع بداية العام الدراسي الجديد، نتيجة قلّة ذات اليدّ وتردي الأحوال الاقتصادية الأسرية، إذ قدّرت منظمات دولية أن 81.8% من الأسر في قطاع غزة تعيش تحت خط الفقر الوطني وتعتمد على المساعدات الإنسانية.
ونتيجةً لذلك، فإنّ انهيار اقتصاد الأسرة الذي هو عمادها وعصبها الأساسي، يتسبب بمعاناة الكثير من أرباب الأسر ذوات الدخل المحدود أو المنعدم في قطاع غزة، وتتفاقم المعاناة أكثر عند قدوم المواسم الاجتماعية، كفتح المدارس أو الأعياد وشهر رمضان المبارك وغيرها؛ لكثرة متطلبات الأبناء تحديدًا داخل الأسرة في هذه الظروف.
آمال فهد هي أيضًا أم لخمسة من الأبناء أكبرهم في الثالث الإعدادي وأصغرهم في الثاني الابتدائي، تقول إنها تستعد طوال فترة الصيف لتجميع المبلغ الذي يُمكّنها من كسوة أبنائها للمدارس.
وتعمل فهد في صناعة المعجنات والكيك المنزلي التي يزداد الطلب عليها في موسم الصيف لكثرة المناسبات الاجتماعية كالأفراح وحفلات التخرج وغيرها، لكن زوجها لا يعمل؛ الأمر الذي يزيد الأعباء عليها وحدها، تُعقّب: "يد لوحدها لا تصفق" في إشارة إلى أنه ومع كل محاولاتها لتوفير دخل البيت وحوائج الأبناء إلا أنها تبقى غير كاملة.
تعد أسرة فهد واحدة مما نسبته 11% من الأسر الفلسطينية في قطاع غزة التي ترأسها نساء، بينما يكون الأب غير موجود أو عاطل العمل مما يزيد الأعباء على كاهل الأمهات، إذ بلغ عدد العاطلين عن العمل في قطاع غزة (239 ألف شخص)، بحسب بيانات أوردها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
ويشهد السوق الغزي حركة سيئة قبيل الموسم الدراسي الجديد، وفقًا لما وصفه المختص في الشأن الاقتصادي، أحمد أبو قمر، الذي قال إنّ حركة الأهالي في الأسواق لاقتناء الزيّ المدرسي ومستلزماته "خجولة" وسيئة جدًا.
وأعاد أبو قمر الأسباب وراء ضعف حركة المتسوقين بالتزامن مع بدء العام الدراسي 2023/2024، إلى ضعف السيولة في أيدي المواطنين وضعف القدرة الشرائية.
ويأتي ذلك، بحسب أبو قمر، نتيجة أوضاع السكان عامة التي تنقسم إلى موظفين لدى حكومة غزة أو السلطة يعانون من خصومات في الرواتب، أو ذوي دخل محدود/منعدم يتلقون مخصصات مالية من وزارة التنمية الاجتماعية والتي تتسم بالتذبذب والانقطاع لأشهرٍ طويلة، إلى جانب عدم إحداث أيّة زيادة على نسبة العمال من قطاع غزة الذين يعملون داخل الخط الأخضر، وكذلك انعدام توفر مصادر دخل إضافية لقطاع غزة أو أي تسهيلات اقتصادية عامة.
يقول أبو قمر في سياق حديثه لـ "آخر قصّة"، "هذه الأمور كلها تسببت في أن يصبح المعروض النقدي من الأموال في الأسواق الغزية أقل بكثير من حاجة المواطنين أو حاجة الاقتصاد؛ لذلك نرى أن هناك الكثير من الأسر لم تستطيع تأمين احتياجات أبنائها المدرسية وهو ما يخلق الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية على حدٍ سواء".
وأشار المختص الاقتصادي إلى أن الوضع الاقتصادي في قطاع غزة يحتاج إلى الكثير من الحركة والنهوض والعمل على خطط تنموية، من شأنها أن تُحِّدث نهضة في هذا الاقتصاد "المتعثر" الذي سرعان ما تنكشف سوءته في أي موسم يمر به أهالي غزة.
في المقابل، يعتبر موسم فتح المدارس أحد المواسم القليلة التي يعكس قدومها انتعاشًا في مهنة الإسكافي داخل قطاع غزة، نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية للسكان الذي يلجؤون في كثير من الأحيان إلى رتق أحذية أبنائهم عوضًا عن شراء أحذية جديدة بمبالغ ترهق كاهلهم.
يعمل الإسكافي أبو محمود في محل صغير بسوق الزاوية وسط مدينة غزة، وتتراص في محله عدد من الأحذية الرياضية، وعدد آخر من الحقائب المدرسية التي بحالة جيدة نوعاً ما لكنها تحتاج إلى صيانة وترميم؛ لتصبح أكثر صلابة لاستقبال عام دراسي جديد وطويل.
وقد وقف الطفل آسر محمد (13 عامًا) في محل أبو محمد بجوار حقيبته السوداء، يقول: "هذه حقيبة السنة الماضية ما زالت بحالة جيدة، وممكن تبقى معي لعامين أيضًا. تحتاج فقط خياطة لتقوى وتحتمل ثقل الكتب".
يضيف: "عودتنا أمي ألا نرمي أغراضنا حتى لو كانت مستخدمة، نحافظ عليها لسنوات، وأحيانًا يصغر على قدمي الحذاء فأعطيه لأخي الأصغر مني. والدي لا يعمل دائمًا ولا يوجد دخل لشراء كل شيء جديد ونحن كبار ونعي ذلك جيدًا فنقبل ونخفف عليهم العبء".
يحتاج آسر وغيره من الزبائن القادمين لإصلاح مقتنياتهم لدى الإسكافي لدفع ما تكلفته ثلاثة شواكل تقريباً في المتوسط لإصلاح الحقيبة، أي نحو (واحد دولار) وهو مبلغ زهيد مقارنة باقتناء واحدة جديدة تصل تكلفتها إلى عشرة أضعاف في أفضل الأحوال.
أما الإسكافي أبو محمود الذي بدا منشغلاً خلف ماكينته، يقول: "إن موسم المدارس منتعش خاصّة في هذه الأيام، فليس كل العائلات تستطيع شراء أحذية وحقائب جديدة لأبنائهم"، مشيرًا إلى أنّ هناك حقائب تمر عليه في أكثر من موسم وتعود العائلة لخياطتها وتحسينها.
في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية المتراكمة والمتلاحقة في قطاع غزة، تظهر تحدّيات الأمهات اللواتي يسعين جاهدات إلى تأمين مستلزمات أبنائهن الدراسية قبيل قدوم موسم دراسي "صعب" عليهن، فتتجلى شجاعتهن في تأمين ما يلزم أبنائهن بأسعار منخفضة أو إعادة استخدام المستلزمات القديمة؛ مما يتطلب ضرورة تظافر الجهود المحلية والدولية لمساندة الأسر الفقيرة في توفير احتياجات أطفالها مع بدء موسم دراسي جديد.
الأسواق قبيل العودة للمدارس