لم يعد معنى "انكسر" في قطاع غزة، يشير إلى دلالته اللغوية بأنه تهشم وتحطم، بل أصبح مصطلحاً شائعاً يُستخدم للتعبير عن إعلان الإفلاس الذي آلت إليه الأوضاع الاقتصادية لمئات التجار ورجال الأعمال نتيجة تراكم الديون ونفاد رأس المال بفعل الحصار المفروض على القطاع.
سارت أقدار التجار وأصحاب رأس المال في غزة على نحو خالف كل التوقعات، إذ إن العشرات منهم موقوفون في السجون، بفعل عجزهم عن سداد الذمم المالية المستحقة عليهم، في ظل انعدام القدرة الشرائية وتضخم نسبتي الفقر والبطالة.
وقد ذكر أحد تجار الأحذية الذي أعلن إفلاسه، إنه اضطر إلى بيع كل أملاكه بما في ذلك مصاغ زوجته من أجل دفع جزء من الديون المتراكمة عليه، بعدما عجز عن استرداد قيمة بضاعته من السوق. وهو الآن يستأجر بيتاً لأسرته، ويمضي معظم أوقاته في السجن، على خلفية الدعاوى القضائية المرفوعة ضده من الدائنين.
على هذه الشاكلة يمضي مئات التجار أوقاتهم، بعدما ساءت أوضاعهم واضطروا إلى إغلاق متاجرهم، بينما اضطر آخرون إلى بيعها، وفريق ثالث لم يجد سوى الهجرة خارج القطاع هرباً من دفع الأموال المستحقة عليه.
حتى وقت قريب كان التجار يعدون من الطبقة الوسطى في المجتمع، غير أن الحصار المفروض على القطاع للعام الرابع عشر على التوالي، أدى إلى اختفاء هذه الطبقة وأبقى على طبقتين فقط: (بورجوازية-وكادحة).
وللوقوف على أصل القصة، لا بد من التوضيح أن التجار جميعهم يتعاملون بشيكات مصرفية مؤجلة يودعون قيمتها في المصارف قبل تاريخ الصرف بقليل، وبالتالي يقوم المستفيد بصرفه بشكل طبيعي، غير أنه خلال السنوات القليلة الماضية ونتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، عجز التجار عن توفير السيولة النقدية بسبب انعدام الحركة الشرائية، الأمر الذي أعجزهم عن توفير قيمة الشيكات المستحقة في مواعيدها المحددة. هذه الحالة، جعلت التجار بين عشية وضحاها، أشخاصاً ملاحقين قضائياً.
يعيد اقتصاديون وتجار على حد سواء، تفسير الحالة إلى انعدام الحركة التجارية وبلوغها مستوى غير مسبوق من التدهور فضلاً عن تكدس البضائع في المخازن، وهو ما ساعد في تكبدهم خسائر بالغة وأجبرهم على توقيع كمبيالات وشيكات من دون رصيد، كما جعلهم غير قادرين على دفع رواتب العمال وإيجار المتاجر.
وفقاً لإحصاءات دائرة التفتيش القضائي في قطاع غزة، بلغ إجمالي قضايا الذمم المالية المتوفرة لدى الجهات القضائية 142 ألفاً، بعضها مرحّل من سنوات سابقة وبعضها خلال سنة 2020، بينما تصدر عشرات الآلاف من أوامر السجن سنوياً بحق المتخلفين عن دفع الديون. وبمقارنة أوامر الحبس الصادرة عن الجهات الحكومية في غزة بعدد السكان، فهي تعتبر مرتفعة كما يقول اقتصاديون، وهذا يعكس مستوى تدهور الأوضاع المعيشية في القطاع.
وبالمناسبة لم يقتصر "الكسر" على التجار فقط، " فصغار الباعة أيضاً تحطمت آمالهم على صخرة الفقر الناتج من توقف الحركة التجارية وخصوصاً مع تفشي جائحة كورونا في القطاع، وما أدت إليه من خسائر اقتصادية.
فقد انتشرت الجائحة لتزيد الطين بلة، وتعطل عجلة الاقتصاد الغزي على نحو غير مسبوق، فبات المواطنون يتجهون إلى توفير الحاجات الضرورية للأسر كالدقيق والبقوليات، على حساب سلع أُخرى كالملابس والأحذية مثلاً، والتي أصبحت في نظر مئات الأسر المعوزة بمثابة سلع ثانوية.
في ظل هذا الواقع البائس، وضع مئات مُلاك المحال التجارية على أبوابهم عبارة "المحل للإيجار"، بعدما اضطر المستأجرون إلى مغادرتها تحت وطأة العجز عن دفع قيمة الإيجار، وهو أمر يعتبره اقتصاديون مقدمة الانهيار الفعلي للحركة التجارية.
ويبدو واضحاً أن أبرز مؤشرات الانهيار الاقتصادي في غزة، تتمثل في بلوغ نسبة البطالة 49%، بعدد عاطلين عن العمل بلغ 203.2 ألف فرد، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فضلاً عن أكثر من مليون شخص يعيشون على المساعدات الإغاثية.
يعزو خبراء الاقتصاد، هذا التدهور في الأوضاع الاقتصادية، إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
أولاً: الحصار الإسرائيلي المتراكم منذ أكثر من أربعة عشر عاماً على غزة، وتحكّم الاحتلال الإسرائيلي في نوعية وكمية السلع الواردة والصادرة من القطاع.
ثانياً: تقليص رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في غزة إلى الثلث، فضلاً عن تقليص رواتب الموظفين الذين يتلقون رواتبهم من الحكومة التي تديرها "حماس" في غزة.
ثالثاً: انخفاض حجم المساعدات الدولية للقطاع، بما في ذلك المساعدات التي تقدمها الأونروا للاجئين.
بناء على المعطيات الآنفة، نستنتج أن الحالة الراهنة ستدفع بالاقتصاد الفلسطيني نحو كارثة بالمعنى الحقيقي، وخصوصاً أنه لا أفق لتحسين الأوضاع المعيشية في الوقت الراهن، تزامناً مع تضخم نسبتي الفقر والبطالة، وانعدام فرص العمل.
يوازي ذلك، احتمال العودة مجدداً إلى الإغلاق الشامل في القطاع في ظل تفشي فيروس كورونا على نحو خطر جداً، إذ بلغ عدد المصابين أكثر من 25 ألفاً، وعدد الوفيات 149 حالة حتى كتابة هذه الأسطر، وهذا أمر ينذر بمزيد من الخسائر الاقتصادية.
في ضوء كل هذه المعطيات، يتوجب على الجهات المسؤولة في كل من رام الله وغزة التدخل لوقف الانهيار الاقتصادي الذي ترافقه انعكاسات سلبية على الوضعين الاجتماعي والإنساني في القطاع، ولا سيما إذا ما أخذنا في الاعتبار أن معدل انتشار الجريمة مرتبط طردياً بمعدلات الفقر.
بالإضافة إلى ذلك، من الضروري أن تعمل مؤسسات المجتمع المدني نحو توجيه جهود المشاريع الدولية لإسناد الحالة الاقتصادية الراهنة من خلال توفير مشاريع تمكين اقتصادي تؤمّن فرص عمل للشباب وأرباب الأسر، بما يحول دون أن تتحول غزة إلى صومال جديدة.