لماذا كان الحج قديمًا موسم حزن لدى الفلسطينيين ؟ 

عدنا بالذاكرة 80 عاماً 

لماذا كان الحج قديمًا موسم حزن لدى الفلسطينيين ؟ 

هناك حيث القرى الفلسطينية البسيطة والأزقة الضيقة والمنازل الطينية، عدنا بالذاكرة أكثر من 80 عاماً للوراء من أجل البحث عن طقوس وتقاليد موسم الحج في الأزمان الجميلة قبل حقبة النكبة. 

تشير الذاكرة التاريخية والشفهية الفلسطينية إلى أن الأيام التي كانت تسبق موسم الحج كانت مليئة الاحتفالات والفرحة في كل ركن من أركان القرى. 

يجتمع الأهل والأقارب في كل ليلة، ويشعلون القناديل والمشاعل التي تضئ السماء الساحرة. وتردد أصوات النساء وهن يغنين بألحان حزينة، فالحجاج كانوا يغادرون الأرض وأهلهم وقراهم باتجاه الديار الحجازية، وكانت فرص عودتهم قليلة بسبب الأمراض والتعب والنهب والعوامل الطبيعية. 

يروي الحكواتي عبد الحكيم سمارة في كتابه (من حكايات أيام زمان) الصادر عام 1997، أن القرى الفلسطينية كانت تتحضر لاستقبال الحجاج قبل رحيلهم بشهر كامل، فالحاج يزور كافة منازل القرية ليودع أهله ويأخذ معه رسائل مليئة بالدعاء والأمنيات للفرج والنجاح عند قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. 

كان الحجاج يعتمدون على مجففات التين والبندورة والمعلبات والزيت والزعتر وسلق البيض لتأمين طعامهم خلال الرحلة الطويلة. وليس ذلك فقط، بل كانوا يحملون معهم الكثير من الملابس ويوزعونها على المحتاجين في مكة المكرمة حول الكعبة المشرفة. 

وكانت القرية تشهد مغادرة حاج أو حاجين واحد أو اثنين في كل موسم، وكانت وسيلة نقلهم هي الخيول والجمال والبغال والحمير، وكل حاج ثري يصطحب معه جملاً أو جملين لنقل متاعه الثمين.

وطبقا للرواية التاريخية فقد كان الحجاج في مناطق الضفة الغربية يتجمعون في مدينة نابلس ومنها يسلكون طرقاً مختلفة للوصول إلى الديار الحجازية. كانوا يمرون بقوافل ضخمة تضم حجاج القدس والخليل ورام الله، يسلكون طريقين رئيسيين، الأول عبر البتراء والثاني عبر مدائن صالح، وكان هناك أدلاء للطريق وحراسة تركية تراقبهم عن كثب.

أما في قطاع غزة فلا تختلف الطقوس كثيراً، إذ يقول المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض، "إن الطقوس كانت تبدأ بمجرد أن ينوي الرجل أو الأنثى اتمام فريضة الحج.. يتجمع الناس ويرددون الأهازيج والتراويد والذي يغلب عليها طابع الحنية، ويغنون أن يوفقه الله وتكون نيته صافية وأن يقبل حجه". 

تستمر هذه التراويد لمدة 3 أيام في المنزل، وفق ما قاله المؤرخ المبيض لـ"آخر قصة"، مشيرا إلى أن التراويد يسيطر عليها لحن حزين، لأن فيها الكثير من مشاعر الوداع، ومن ثم يدعو الناس للحاج أو الحاجة بالوصول بالسلامة، لأن طريق الحج قديماً كان يوجد به مشقة".

وعن شكل المسير إلى الحج، أشار إلى أن الحجاج كانوا ينطلقوا قبل 4 أشهر تقريباً من ذي الحجة، ويذهبون سيراً على الأقدام أو على "محمل الحج" إلى محطة غزة، ويكونوا عبارة عن مجموعات من الناس، يرافقهم الوالي أو الحاكم وسط حفل بهيج يرددون خلاله الأدعية والأناشيد على طول الطريق.

وعند الوصول إلى المحطة، يركب الحجاج القطار، ويودعهم أهل البلد بالتلويح بالأيدي، ثم يتجهون إلى مصر حيث قناة السويس، ومن ثم ينتقلوا إلى سفن للانطلاق إلى البحر الأحمر ومن ثم إلى مكة، حسبما قال.

في المقابل وبالنسبة لأهالي الضفة، فقد كان الحجاج وعلى طول الطريق إلى الديار الحجازية، يتوقفون في مناطق معينة للاستراحة. وكانت هناك قبور للحجاج الذين توفوا في الطريق، وكانت هذه القبور تعود لحجاج من جميع الأقطار.

يوضح الكاتب سمارة، أنه في يوم رحيل الحجاج، كانت تجتمع القرية بأكملها في ساحة الوداع. يحمل الحجاج حقائبهم ومتعهم على ظهور الجمال والبغار، وتمتلئ الأزقة بالأصوات المبهجة والدموع التوديعية. يتراوح الوداع بين المشاعر المختلطة من الحزن والفخر والأمل في العودة بسلام.

تنطلق القافلة ببطء، ترافقها أصوات الهتافات والصلوات. يتبعهم الأهل والأقارب لبعض المسافة، يراقبونهم حتى تختفي القافلة في أفق الجبال. يبقى الأهل يصلون ويدعون للحجاج بالسلامة والتوفيق في رحلتهم.

بعد مرور أسابيع من السفر الشاق، يصل الحجاج إلى الديار الحجازية. يستقبلون بفرحة وترحيب حار من قبل أهل مكة والمدينة المنورة. يقضون أيامهم في أداء مناسك الحج وزيارة المسجد النبوي والكعبة المشرفة. يقومون بالطواف والسعي ورمي الجمرات والاعتكاف، يشعرون بالقرب من الله و بالتواصل مع المسلمين من جميع أنحاء العالم.

بعد أن يكمل الحجاج مناسك الحج، يبدأون في العودة إلى القرية. يشعرون بالحنين لأهلهم وأرضهم، و يتطلعون للعودة بأمان. يسلكون نفس الطرق التي اتبعوها في الذهاب، يتوقفون في نفس المناطق للاستراحة ويمرون بجوانب القبور التي تعود للحجاج الذين توفوا في الطريق.

وعندما يقترب الحجاج من القرية، يصدح الناس بالتكبيرات والأهازيج وينتشر الفرح في كل مكان. يستقبلهم أهل القرية بأعواد العود والأزهار، ينطلقون في موكب بهيج يعبر الأزقة الضيقة. يملأ الهتافات والتهاني الأجواء، ويتبادل الحجاج الأماني والهدايا مع الأهل والأقارب والجيران.

تعيش القرية في أجواء الفرح لعدة أيام، يقام الحفلات والاحتفالات، وتروى قصص الحج وتبادل الخبرات والتجارب. يحتفل الجميع بعودة الحجاج بسلامة ويشعرون بالفخر بأنهم قد أدوا مناسك الحج وحققوا حلمهم.

في غزة، وعن طقوس عودة الحجاج، يقول المبيض: "كان الناس يستقبلونهم بالولائم ويرددوا لهم التراويد، ويقدم الحاج الهدايا وهي عبارة عن خاتم من الأحجار أو السبح"، منوهاً إلى أن ملابس النساء كانت عبارة عن لباس أبيض و"قنعة" على وجهها والرجال الجلابية البيضاء.

يتفق الباحثان على أن الأشخاص الذين يحجون وهم في عمر الشباب، كانوا أكثر الحجاج حظوظاً حيث أنهم يحملون لقب "الحاج" مبكراً، ويعيشون بقية حياتهم سعداء مفعمين بالفخر والاعتزاز.

وبعد أكثر من ثمانين عاماً على هذه الطقوس، يمكن القول إنه اندثر الكثير منها بفعل اختلاف الأزمان والأمكنة، وتضاعفت تكلفة الحج وسهلت التكنولوجيا سبل التواصل مع الحجاج حتى أثناء المناسك في هذه الأيام.