في الوقت الذي يواجه صحفيو العالم صعوبات طبيعية ناجمة عن تبِعات المهنة ذاتها، يعيش صحفيو غزة نوع مختلف من الضغوطات النفسية التي تضطرهم جميعًا أن يصبحوا "صحفيي حروب" خاصّة في ظلَّ عملهم داخل القطاع الذي يتعرض بين حينٍ وآخر لعدوانٍ طاحن، كان آخره في مايو الحالي.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: كيف يستطيع الصحفيون مواصلة مشوارهم في هذا الحقل الملغم بالمشاهد القاسية والحوادث المفجعة، ومكابدة البعد عن الأهل والأطفال خلال فترات التصعيد؟
"آخر قصّة" التقت عددًا من صحفيي غزة العاملين في وكالات محلية ودولية لتتعرف على تجاربهم فيما بعد وقف إطلاق النار. مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة هشام زقوت، قال: "لعلّها المرة الأولى التي يهتم فيها أحدٌ ما بالسؤال عن الصحفي وأحواله ونفسيته، فالناس تعتقد أن المراسل قادر على التحكم بمشاعره خلف الشاشة كما هو على الشاشة".
ليست النجاة من العدوان هي سلامة الجسد فقط، إذ تهدأ أصوات الصواريخ والقذائف ويبدأ صدى أصوات الضحايا يتردد في نفوس شهود العيان ولا أكثر شهادةً من الصحفيين أنفسهم.
يقول زقوت لـ "آخر قصة"، "الصحفيون بشر يخافون من القصف ومن حجم المجازر وكثرة الضحايا وتروعهم المشاهد المرعبة ووجوه الضحايا التي تغطيها الدماء".
منذ العدوان الإسرائيلي الأول على قطاع غزة عام 2008-2009 وإلى اليوم، يقف زقوت أمام الكاميرا يغطي الأحداث بجسارة نفس ورباطة جأش، لكنه لم ينجُ من المشاهد التي ظلّت عالقة في مخيلته وتسببت بالأذى النفسي. أما نصيب الأسد من البشاعة ما بين العدوانات المتكررة كان عدوان عام 2021 حسبما وصفه مراسل الجزيرة، وأضاف "كان الأعنف على غزة".
وعن ذلك العدوان وقساوته قال زقوت، "مرَّ عامان وكلما جاء ذكر العدوان تحضرني مشاهد الصراخ والخوف في عيون الأطفال والنساء الهاربين بعد قصف شارع الوحدة في مدينة غزة، وتلاحقني أصوات وأنين المحاصرين تحت الأنقاض، ولحظات الخوف والرعب خلال تغطية القصف على منزل عائلة الطناني تدمي القلب كلما حضرت ذكراها".
كيف تحاول تخطي هذه المشاهد ومواصلة عملك الصحفي في الميدان؟ أجاب زقوت، "أهرب أحيانًا بعيدًا عن شوارع تلك الذكريات حتى لا تقفز لي من كل ركن فتعود ذكراها تحاصرني، وقد ساعدني والدي وهو متخصص في علم النفس على اجتياز الظروف النفسية الصعبة التي تلمّ بي بعد كل عدوان".
ولا تتعلق المسألة بالانعكاسات النفسية للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة على الصحفيين فحسب، وإنما يواجهون خطر الموت أيضاً لا سيما أن الكثير من المخاطر تحدق بهم خلال تغطية أحداث العدوان، ويكادون أحيانًا يمشون بين القذائف، إن جاز الوصف. ورغم هذا إلا أن عملهم لا يتوقف مع إعلان وقف إطلاق النار. البعض يقول في تلك اللحظة تبدأ مهمة جديدة أكثر تعقيدا اسمها "مهمة نقل رواية الضحايا".
دعاء روقة مراسلة صحافية لقناة "المسيرة اليمنية" من قطاع غزة، هي أيضًا وقفت بجزالة كتف بكتف مع زملائها الصحفيين تغطي أحداث العدوان الأخير، ولم تكتفِ فتابعت بعد وقف إطلاق النار، تقول "انتهاء العدوان ومغادرة الطيران الحربي لسماء غزة ووقف الصواريخ لا يعني انتهاء عمل الصحفي، فهو ملزم أيضًا بتغطيات ما بعد العدوان واكتشاف قصص الناجين ومآسي المتضررين".
كيف أثرت هذه القصص والمشاهد عليكِ بشكلٍ مباشر؟ تقول روقة لـ "آخر قصة"، "بعد وقف التصعيد انعكست الأمور عليَّ سلبًا وزاد شعوري بالتعب والأرق ولم أستطع بعد تجاوز ما حدث ولم تعد حياتي كالسابق أبدًا، فأنا أعاني من فقدان شهية ونزول الوزن".
جميع المشاهد التي رأتها روقة عالقة في ذهنها وتُعاد تلقائيًا في دقائق خلوتها وصمتها وعند النوم، حسب تعبيرها، وأضافت، "ما تزال المقابلة التي أجريتها مع زوجة الشهيد طارق عز الدين التي فجعت بزوجها وطفليها وتلقت الصدمة وحدها فيما هي مغتربة عن أهلها تراودني في كل وقت، وكذلك تغطية قصف عائلة نبهان التي تضمّ عددا من ذوي الإعاقة الذين لا حيلة لهم".
في العديد من دول العالم بعدما تنتهي التغطية الحربية للطواقم الصحفية العاملة، يذهبون في قضاء إجازة سواء بالسفر أو غيره لكن في غزة الأمر غير متاح في كل الأوقات، يقول المصور الفلسطيني أشرف أبو عمرة، "صحفيو غزة لا يملكون رفاهية التوقف أو الانهيار لأن الأمر لا يتعلق بعملهم ومصدر رزقهم فقط بل هي قضية كل واحد فيهم التي يسعون لإيصال رسالتها للعالم".
لكن ذلك لا ينفي حقيقة تأثر الصحفيين بما تؤول به التصعيدات، يقول أبو عمرة، "زوجتي تخبرني عن تفزعي خلال نومي لعدة مرات دون أن أشعر، أحاول أن أظهر ثباتي في الأوقات العادية لكن تأثير العدوان يظهر بعدّة أشكال علينا فنحن كمصورين وصحفيين نتابع أعمالنا دون توقف أو إجازات ولا يوجد مؤسسات تُعنى بتحسين نفسية العاملين في سلك الإعلام بعد انتهاء العدوان".
في غزة، يُقاسي الصحفيون من ضغوطات التغطية خلال التصعيد وما يصابون به من تعبٍ جسدي وارهاق وثقل نفسي خلال مواصلة العمل لأيام دون العودة لبيوتهم وأطفالهم، فيحاولون التنفيس عن أنفسهم بالحديث عن الأمر واقتطاع أوقات ترفيهية على شاطئ بحر غزة باعتباره المتنفس الوحيد لسكان المدينة.
المصور الصحفي حسن اصليح الذي يعمل لعدّة وكالات محليّة، هو أيضًا أشار إلى متاعب المهنة المضاعفة في قطاع غزة الذي لا يخلو من التصعيدات والعدوانات، وقال، "في الوقت الذي يهرب فيه الناس من البيت المقصوف نقترب نحن منه لننقل الصورة إلى العالم".
وذكر اصليح في حديثه لـ "آخر قصة"، أن أصعب التغطيات الصحفية التي أجراها خلال العدوان الأخير على قطاع غزة كانت عمارة "بانياس" عندما خرج منها السكان وهم في حالةِ ذعر وخوف شديد يبحثون عن مأوى من الصواريخ فقد قصفتهم الطائرات الحربية دون سابق إنذار.
وكغيره من زملائه الصحفيين، ما تزال ذاكرة اصليح خصبة بمشاهد القتل والتدمير والناجين من تحت الأنقاض، فيما قال إنّ أكثرها إيلامًا وتأثيرًا عليه هي مشاهد الشهداء من الأطفال، لكنه خلاف غيره ممن يعايشون هذه الظروف يتفادى اصليح الحديث عنها بأيّ شكل خوفًا من نبش الجرح على حدِ وصفه.