لطالما اعتدنا على رؤية "بنطال الجينز" بكثرة خلال مواسم التحضير للأعوام الدراسية الجديدة، بصفته جزء من مكونات الزي المدرسي، غير أن الجينز كنوع من القماش يفرض نفسه على الكثير من الناس قسرا لا ترفاً حتى في مواسم الأعياد، فما هي قصته؟.
لو عدت بالزمن إلى الوراء وسألت أحدًا من جيل الثمانينات مثلا هل ارتديت الجينز يوماً؟، سيجيبك فوراً أنه لم يمر أسبوع في حياته لم يرتدي الجينز، لاعتبارات عدّة، أولها أنه جزء من مكونات الزيّ المدرسي، وثانياً لأنه في نظر الأمهات القماش الذي لا يذوب.
يسود اعتقاد لدى شريحة عريضة من النساء، أنَّ "الجينز" هو نوع الأقمشة الوفية لأصدقائها، فهو ذو قدرة على احتمال اللعب والقفز والبقع الناتجة عنهما. وتشيع الأمهات أنَّ "الجينز" كلما تعرض للغسل كلما أصبح أكثر جمالية.
وفي هذا الترميز إلى الجودة، نجد أنَّ هناك أجيالاً فرض عليها ارتداء "الجينز" قسراً في مختلف المناسبات ليس فقط كزي مدرسي، ولكن كلباس عيد أيضاً، والمبرر "علشان الجينز بخدمك بكرا لما تلبسه على المدرسة يما".
ناهيك عن ذلك، تُفضل جزء كبير من الأمهات شراء بنطال الجينز بمقاس يكبر حجم طفلها بدرجة أو درجتين، تحت مبرر أنَّه كلما كان كذلك كلما ارتدي لوقتٍ أطول"، تحسباً لنماء جسم الطفل وتطوره السريع.
في الطريق المؤدي إلى سوق عمر المختار تحمل السيدة "أم سليم" بعض أكياس لكسوة أبنائها، وعن سؤالنا لها عن أهمية البنطال "الجينز" في كسوة العيد خاصة مع اقتراب عيد الفطر السعيد، هزت رأسها ضاحكة وهي تقول، "اشتريت لبناتي الثلاثة بلاطين جينز رغم انه سعره مرتفع لكنه عملي ويمكن استغلاله للزيّ المدرسي".
أردفت السيّدة وقد خفضت صوتها عن مسامع بناتها، "بعد هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي نمر بها، أصبحنا نضطر للتوفير في المصروف بأيّ شكل، أشتري لهم بلاطين جينز بمقياس أكبر حتى يرتدونها للعام القادم أيضًا".
ومن الواضح كما أشارت "أم سليم"، أنَّ المُحرك الأساس وراء هذا الاندفاع لاقتناء "الجينز"، هو الظرف الاقتصادي الذي يجعل الناس مضطرين لاقتناء الملابس الأكثر جودة وبأقل الأسعار.
لذلك تَجد الأمهات تُوفر "البنطال الجينز" لأبنائها في مناسبات الأعياد والمناسبات العائلية المختلفة لاستغلال ارتدائه في الدوام المدرسي والمناسبات الأخرى، لتوفير جزء من المصروفات عليهم خاصّة عندما يكون هناك عدد من الأخوة والأبناء الذين يُرهقون كاهل ذويهم من الأسر المحدودة الدخل.
ووفقًا لمدير عام الصناعة في وزارة الاقتصاد جمال مطر، فإنَّ حاجة قطاع غزة للبنطال "الجينز" حوالي 2.5 مليون قطعة سنويًا، فيما يستطيع القطاع المحلي تغطية أكثر من نصف الكمية المطلوبة بكفاءة ممتازة، حسبما قال.
وبالنظر إلى حاجة السوق الكبيرة لاستهلاك "البنطال الجينز" وما يُمكن توفيره محليًّا لسدّ جزء من ذلك الاحتياج وما يترتب عليه من تكلفة بيع تفوق المستورد نظرًا لتكلفة الإنتاج الباهظة، نجد أنّ التجار والمواطنين على حدٍ سواء يشتكون من ارتفاع أسعار هذا المنتج الأساسي في السوق.
في أحدِ المحال التجارية، تقف السيدة الأربعينية "أم مجدي" برفقة ابنها الذي يلاوحها طولاً وهي تختار له بنطالاً، تقول لـ "آخر قصة"، "عندي 3 أولاد وابنتين، أشتري لهم كلهم بلاطين جينز في كسوة العيد حتى يرتدونها في دوامهم المدرسي سواء كانوا ابتدائي أم إعدادي أم ثانوي".
وتقاسي عائلة أم مجدي أحوالاً مادية سيئة إذ يعمل زوجها في أحد الوظائف الحكومية ويتقاضى 60% من راتبه، نتيجة الأزمات الاقتصادية التي يعانيها الموظفين الحكوميين في قطاع غزة سواء كانوا يتقاضون رواتبهم من حكومة غزة أم حكومة رام الله بفعل الأزمات والخصومات التي أرهقتهم.
يمر السكان بهذه الظروف التي تزداد شدّتها عامًا بعد عام بفعل الحصار، خاصّة في ظلّ استعدادهم لاستقبال عيد الفطر السعيد على بُعد بضعة أيام، وحاجة العائلات لتجديد كسوة أبنائها التي أصبحت موسمية نتيجة للأوضاع العامة التي يمر بها القطاع.
وبحسبِ الثلاثيني "سامر علي" أحد أصحاب محلات بيع ملابس الأطفال في مدينة غزة، فإنَّ ضغط شراء البنطال "الجينز" يزداد عليهم خلال فترة العيد تحديدًا لكل الأعمار، مبينًا أنّهم يُحصلّون القليل من الربح وغالبًا ما يبيعون برأس المال، وفق قوله، نتيجة فرض ضريبة إضافية على المنتج من الحكومة.
وكانت أصدرت وزارة الاقتصاد الوطني في قطاع غزة في وقتٍ سابق قرار فرض تعلِّية جمركية على "البنطال الجينز" المستورد؛ مما أثار اعتراض التجار الذين يرون في الإجراء ما يُؤثر سلبًا على أعمالهم ويُقلّص من حجم مبيعاتهم.
يأتي اعتراض التجار على القرار الوزاري في التعلية الجمركية على "البنطال الجينز" في ظلّ أنّ المنتج المحلي لا يستطيع تلبية كافة احتياجات المستهلكين، إذ قدم التجار شكاوى بهذا الخصوص وقاموا بإعلان الإضراب وكان آخرها إضراب جزئي قبيل قدوم شهر رمضان "نهاية فبراير"، أغلقوا فيه متاجرهم وعلّقوا لافتات لكن دون جدوى.
وبالعودة لمدير عام الصناعة في وزارة الاقتصاد، جمال مطر، الذي قال لـ "آخر قصّة" إنَّ أزمة "البنطال الجينز" تتكرر كل موسم، وفسّر ذلك بالتغيُّر في سعر صرف الدولار من عامٍ إلى آخر إضافة إلى ما وصفه بـ "جشع التجار" في زيادة الأرباح.
وأشار مطر إلى أنَّ وزارته لم تُنفِذ أيُّ من قرارات التعليّة والضرائب على 600 ألف "بنطلون جينز" دخل قطاع غزة، مبينًا أنّ الوزارة تحاول خلق نوع من التوازن بين سعر البنطلون "الجينز" المستورد والمحلي الذي يُعد أعلى سعرًا نتيجة ارتفاع أسعار المواد الخام.
وعملت الوزارة على تثبيت وتوحید الأسعار في كافة محلات القطاع على البنطلون الجینز تحدیداً، وفقًا لمطر، الذي قال إنّ ذلك حفاظاً على مصلحة المستھلك، كما ضبطت التجار المخالفین للقرار بعدم تثبیت الأسعار.
عوداً على بدء، نجد أن رجالاً في عمر الثلاثينات والأربعين، أصبح "الجينز" جزءًا من مظهرهم ليس حباً في شكله أو راحة في ملبسه، وإنما للقناعة التي رسختها أمهاتهم في طفولتهم بأنه الأكثر وفاءً لصاحبه ولأمر آخر "يتناغم مع أيّ من ألوان القمصان" حتى لو ارتفع ثمنه.