كان أحد أيام كانون المشمسة، حين انطلقت السيارة على طريق صلاح الدين الرئيسي الواصل محافظات قطاع غزة الخمس ببضعها، متجهة إلى بلدة بني سهيلا شرق محافظة خانيونس جنوب القطاع، حيث تأخذ البلدة قيلولتها بعد وجبة "يوم الجمعة" الدسمة، التي اعتاد أن يتناول فيها المقتدرين من الناس أشهى المأكولات.
في هذا الوقت بالذات اعتادت الشوارع أن تكون فارغة إلا من أولئك الذين قرروا حمل حاجياتهم في أكياس منتفخة تنمُ على الرجوع أو الذهاب إلى محطة تالية، في أغلب الأحيان تكون بيت أهل الزوجة أو الزوج، وفي أحيانٍ أخرى -كما هو حالنا- إلى أقصى الشرق عند الخالة أم نسيم، حيث الشمس والخضرة والعالم البسيط غير المعترف بالتكنولوجيا وأتباعها.
الحاجّة أمونة أحمد القرا الملقبة بـ"أم نسيم أبو رجيلة"، استقبلتنا في آخر ممر طويل من أشجار الصبّار الشوكية حيث تقبع أرضها أقصى شرق محافظة خانيونس.
تصل إليها عبر باب خشبي عتيق يفضي إلى فسحةٍ تحوي "المضافة"، والنافورة التي خُصصت لها أربع فخاريات كي يناولنّ الماء إلى بعضهن البعض، والأرجوحة التي تطل بالجالس عليها إلى ما بعد السلك الفاصل بين شرق القطاع والأراضي المحتلة، وعلى بعد أمتار قليلة تقيم بيت الشِّعْر، وهو ركن بدوي بامتياز دقت أوتاده بثبات وتغطي أرضه قطع صوفية منسوجة بحرفية.
أم نسيم سبعينية من مواليد مدينة خانيونس، لم تتمتع بطفولة كما أغلب الجدات اللواتي في عمرها، فقد ألقت الحياة بمسؤوليات ثقيلة على كاحلها منذ كانت في عمر السبع سنوات.
وقالت وهي تلف رأسها بوشاح أبيض خاطَت عليه ورود بألوانِ مختلفة: "مذ كنت طفلة وأنا اساعد أمي في أعمال الزراعة والفلاحة وبيع المحصول وتربية إخواني الذين يصغروني سنًا.. أفكر أحيانا في طفولتي وأقول إنها كانت قاسية ومليئة بالشقاء والكد".
تجلس أم نسيم في أرض قسمت أطرافها إلى ركنين، واحد يرقد فيه الفرن الحجري الذي تطهو عليه شطائر الزيت والزعتر التي هي أيقونة المكان، وركن آخر لاستقبال الضيوف الذين يجلسون بموازاة السلك الشائك الفاصل بين أراضي المزارعين الفلسطينيين والأراضي المحتلة عام 1948.
تتعدد أنواع الخضراوات في هذه الأرض التي تملكها السيدة صاحبة الوجه البشوش، فمنها البروكلي، والبازلاء، والجرجير، تتوزع في صفوفٍ منتظمة بالتوازي. وعلى بعد مسافة قصيرة تستقبل السيدة زوارها ممن جاؤوا من مناطق مختلفة من القطاع قاصدين الطبيعية وجمالها.
وحولت أم نسيم أرضها إلى مزار سياحي، وصارت جلستها تستحوذ على اهتمام فئة كبيرة من الشباب الذين يعانون من تحديات الحياة والظروف الاقتصادية الصعبة في قطاع غزة الذي يعيش أكثر من نصف سكانه على المساعدات الإنسانية.
يقصد الناس هذا المكان، لغايتين: الأولى هو الاستمتاع بهواء الطبيعة العليل والعيش لساعات قليلة في أحضان الخضرة التي حد منها الزحف العمراني بحكم الكثافة السكانية التي يعانيها القطاع، أم الثانية فهي تذوق طعام أم نسيم وطهيها التقليدي.
"فتة الخبيزة، الملوخية الناشفة، دمسة العدس، البصارة"، هذه الأكلات التراثية التي ربما مُحيت من ذاكرة "جيل الشباب" الذين اعتادوا تناول الوجبات السريعة. هذه الوجبات وغيرها تصنعها السيدة السبعينية على الحطب، وعنها تقول: "هذه أكلات طيبة وكلها روح، لكن الوجبات سريعة ولا توجد بها روح".
يقاطعها شاب زائر للحقل قائلًا: "لم أتخيل يومًا أن أتناول الخبيزة، لكن "نفس" أم نسيم وطريقتها في الطهي، تجبر الجميع على حبّ أكلاتها". في الأثناء دخلت مجموعة من النسوة والأطفال وألقوا التحية على الحاجّة: "كيف حالكي يم نسيم"، حيث يميز المستمع اللهجة المكسورة التي يتمتع بها أهل المنطقة، خاصّة وأنّ الحاجة أمونة باتت تعتبر الأيقونة السياحية الأشهر التي يقصدها القريب والبعيد، لقضاء أوقات "العصرية" بعيدًا عن ضجيج المدينة، والتمتع بكأس من الشاي في الطبيعة المطلقة.
ليس هذا فحسب، فبعض الفتيات يقصدن أم نسيم على وجه الخصوص كي يتعلمن وصفات الطهي التقليدية "على الأصول"، وقالت: "أغلب الزائرين يرغبون بتناول المفتول، فتجلس بعض الفتيات بجانبي ويسألنني عن أدق الخطوات، وكيفية الفتل، ذلك أن وصفاتٍ كهذه لا يتقنها كل الناس" تتحدث أم نسيم وهي "تُلقم" إبريق الشاي الذي ثبتته فوق الحطب المشتعل الذي تحلقنا حوله استماعًا لبقية القصة.
حب أم نسيم للحياة، كان سببا رئيسياً وراء إعادة إعمار مسكنها الذي سبق وأن دمرته الآليات الإسرائيلية خلال العملية العسكرية على غزة صيف 2014، وعن تلك المرحلة قالت: "لقد محيت هذه المنطقة بأكملها لكننا أعدنا بناءها مجدداً، فنحن نحب الحياة وأرواحنا معلقة في الأرض".
تحمل السيدة كل صباح مكونات طعامها، ويشاركها أحفادها وهي تنتقل من المسكن متجهةً إلى مملكتها حيث "الخلا والخضار، وقالت مبتسمةً: "هو في بعض الماء والخضرة والوجه الحسن".
تقول السيدة أم نسيم: "انا أحببت أن أحيي هذه المنطقة الحدودية، كانت غايتي أن أحولها إلى مزار سياحي.. لقد أصبح لي متابعين عبر الفيسبوك ويزوروني باستمرار، وأنا سعيدة بهذه التجربة جداً".
تقف حتى تودعنا أمام الباب الخشبي وقد باتت قطع الليل تتساقط تدريجيًا على المكان، وتوصِّفنا طريق العودة بدقة. تركناها وراءنا في منطقة شبه خالية، متوغلة في البعد عن مركز المدينة. كما لو كانت حارسة الحدود.