يلتف الشاب وسيم حرب (27 عاماً) على الإجراءات الأمنية المشددة، والتي يمنع بموجبها فتح البقالات، والمحال التجارية نتيجة تفشي جائحة كورونا، ويدخل خلسة إلى متجره بعد إغلاق الباب خلفه مع إعلام الزبائن بذلك.
يترتب على هذا الفعل تحدّ أمني، وخطورة كبيرة، غير أن "وسيم"، وهو من سكان مدينة غزة، أكثر المحافظات إصابة بالفيروس، يختلق عذراً لفعله، قائلاً: "هناك أسر مستورة لن تجد طعاماً تأكله ما لم أفتح المتجر، علماً أنها تشتري جميع حاجاتها بالدين".
يشير وسيم، الشاب الذي يدير المتجر نيابة عن والده، إلى أن فاتورة الدين قد تضاعفت على كاهل الزبائن، وبخاصة على الأسر المعوزة، بفعل انعدام فرص الدخل في ظل فرض حظر التجوال في أحياء متفرقة من القطاع، لتصل في بعض الأحيان إلى 17 ألف شيكل (ما يعادل 5000 دولار أمريكي).
يؤكد البائع "وسيم" أن دفتر الدين أصبح السبيل الوحيد أمام الأسر التي تعيش على الكفاف، والتي انحدرت أحوالها إلى الجوع، بفعل عجز أربابها عن العمل وخصوصاً العمال الذين يتقاضون أجوراً يومية.
"لقد كسرت الظروف الاقتصادية قواعد التعامل المالي بين الزبون وصاحب مصدر الرزق. لا يمكنني كسر خاطر رجل فقير جاء لقص شعر رأسه بالدين، وأنا أعلم أن الظروف قد أجبرته على ذلك"
ويعوّل وسيم على صرف المعونة الدورية- أو ما يعرف بـ"شيك الشؤون"- التي تقدمها وزارة التنمية الاجتماعية في السلطة الفلسطينية، دعماً للأسر الفقيرة كل 90 يوماً، وذلك لأجل استيفاء جزء من الديون المستحقة عليهم لمصلحة متجره.
وبفعل جائحة كورونا توقف نحو 160 ألف شخص عن العمل، وفق إحصاءات نقابة العمال في قطاع غزة، وهذا مؤشر إلى أن مستويات الفقر والبطالة انحدرت إلى دِرك غير مسبوق، علماً أن قطاع غزة يعاني أصلاً في ظل حالة الحصار من ارتفاعٍ في معدلات البطالة، إذ بلغت نسبتها في صفوف الشباب 63% وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء، في حين يعتمد أكثر من 80% من السكان على المساعدات الإغاثية المقدمة من الجهات الدولية والمانحة.
خارج متجر "وسيم" وعلى بعد أمتار قليلة، يجلس رجلان أمن لمراقبة حركة المواطنين، فيما يتدفق الزبائن نحو المتجر بشكل متقطع، بلا كمامات واقية، ويطلب منهم البائع عدم لفت الأنظار. وكان واضحاً أن رجال الأمن يغضون الطرف عن هذا الإجراء المخالف لقواعد السلامة الصحية.
أثناء مقابلتنا صاحب المتجر، تهكم أحد الزبائن من خلف قناع طبي أزرق اللون، قائلاً: "ليست فقط متاجر السلع والخضار التي تبيع بالدين، نحن الحلاقين أصبح لدينا دفتر دين لقائمة طويلة من الناس أيضاً".
يتحسس الحلاق، ويدعى حازم، جيبه قبل أن يطلب تدوين مشترياته على دفتر الدين، قائلاً: "لقد كسرت الظروف الاقتصادية قواعد التعامل المالي بين الزبون وصاحب مصدر الرزق. لا يمكنني كسر خاطر رجل فقير جاء لقص شعر رأسه بالدين، وأنا أعلم أن الظروف قد أجبرته على ذلك".
يضيف الحلاق (30 عاما)، وحمرة الخجل على وجهه: "أضطر في الكثير من الأوقات لشراء حاجاتي بالدين، يبدو واضحاً أن هذا أصبح سلوكاً معتاداً وتراكمياً، فالموظفون مثلاً أغلبهم يؤجلون دفع ثمن الحلاقة حتى موعد صرف الرواتب، وأنا أصبحت أربط معاملاتي بالموعد ذاته، وأؤجل الدفع حتى يسدد الموظفون ديني، وهكذا تمضي الحياة في غزة".
ويرى الباحث في الشأن الاقتصادي الفلسطيني أحمد أبو قمر، أنه "لا يوجد مناصاً أمام الفقراء بمختلف أماكن وجودهم، من اللجوء إلى دفتر الدين باعتباره الوسيلة الوحيدة لتوفير الحاجات الضرورية لهذه الأسر".
وأشار أبو قمر إلى أن اعتماد البيع بالآجل أو كما يعرف بـ "الدين" يشكل فرصة أمام أصحاب المتاجر، باعتبار أن هذه الطريقة تساهم في زيادة نسبة المبيعات، "ولكن ذلك غالباً ما يكون محكوماً بشرطين: الأول أن سقف الدين محدد سلفاً، والثاني أن فتح الحساب مرهون بثقة البائع في المشتري، وطبيعة مصدر دخل الأخير، وذلك تجنباً لتعرضه للنصب وضياع حقه"، كما قال.
ولفت إلى أن بعض التجار يعتمدون على البيع لأجل مسمى، وبثمن أعلى من ثمن السلعة الأصلي لأن هذا النوع من البيع يعتمد على المخاطرة، وليس هناك أي نوع من الائتمان. لذلك يرفع التجار سعر السلعة عند البيع بالآجل، مشيراً إلى أن هذه الآلية تساعد التجار أيضاً في تصريف بضائعهم المتكدسة.
ووفقاً لأبو قمر، فإن البيع بالآجل يشكل فرصة لأصحاب الدخل المحدود، إذ يتخطون الضائقة المالية بالحصول على حاجاتهم عبر دفتر الدين إلى أن يحصلوا على الراتب، وهذا يساعد التجار في بيع بضائعهم، فيما الامتناع عن البيع بهذه الطريقة سيتسبب في كساد السلع، بحسب أبو قمر.
وأوضح أنه بعد تردي الأوضاع الاقتصادية على نحو كبير خلال عام 2017، وبخاصة بعد البدء بتقليص رواتب الموظفين إلى النصف تقريباً، عجز الكثير من الموظفين عن سداد ديونهم، الأمر الذي أوجب بيع (دفتر الدين) إلى شركات تحصيل الديون، في تطور لتلك الظاهرة، ويضيف أبو قمر: "هذا عرف مبتكر نتيجة الأزمة وعجز الكثير من الناس عن سداد ديونهم، بأن تشتري شركات تحصيل دفاتر الدين بقيمة مالية أقل من قيمة مجموع الديون، وتحصيلها بطريقة قانونية تحفظ بها حقوق جميع الأطراف".