لم يمضي شهر واحد على زواج نهى عبد الرحيم (اسم مستعار)، حتى بدأت تعاني ويلات التعنيف المستمر من زوجها وضربه المبرح لها وما يُلحقه من أذى نفسي وجسدي، دون أن يكترث لإنسانيتها، وأمضت تسعِ سنوات على هذا الحال.
قالت نهى (29 عامًا): "كنت عروسًا عندما ضربني أول مرة ثم توالت المرات لأسبابٍ واهية، مرة يفقدني الوعي ومرة يصيبني بكسرٍ هنا أو هناك، حتى لم يبقى موضعًا في جسدي لم يشكو كسرًا أو كدمة منه".
ما قاسته نهى تعاني منه شريحة كبيرة من النساء المتزوجات، وذلك وفق إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2019، التي قدّرت نسبة النساء المتزوجات حالياً أو اللواتي سبق لهن الزواج في قطاع غزة، وتعرّضن "على الأقل لمرة واحدة" لأحد أنواع العنف من قبل الزوج سواء أكان (نفسي، جسدي، اقتصادي، جنسي)، بـ 70.4%.
كما أنَّ هناك انتشارًا للعنف الممارس على النساء في عموم فلسطين وقطاع غزة، بينما تتفاوت النسب من منطقة لأخرى، حيث كانت النسبة الأعلى في القطاع في محافظتيّ خانيونس (41%) وغزة (40%)، أما النسبة الأدنى جاءت في منطقة دير البلح بواقع (30%).
واختلفت ردود أفعال النساء إزاء ما يتعرضون له من عنف، أما "نهى" تحديدًا التي تحدثت لـ "آخر قصة"، قالت إنه عندما كان يشتد تعنيف زوجها لها كانت تذهب للاستغاثة بوالدها والدموع تغمر وجهها، تشكو من معاملته القاسية وبطشه الشديد في أذاها، لكنها لطالما اصطدمت بردّة فعله عندما يقول، "ارجعي لبيت زوجك يا بنتي، شو يقولو علينا الناس؟ مع الوقت بتغير".
وتبين في ورقة حقائق أصدرها مركز مسارات البحثي، أنّ 61% من أولئك النساء المعنفات فضلن السكوت بشكل كامل، و24% لجأن إلى بيت الوالدين أو أحد الأخوة/ات، و1% فقط ذهبن لمقر الشرطة أو وحدة حماية الأسرة لتقديم شكوى أو الحصول على مساعدة.
أما ذلك التغير الذي كان يرجوه والد نهى لم يحدث إلا للأسوأ وحجم التعنيف ازداد أكثر مع كل يوم كان يمر على الحياة الزوجية التي كانت تعيشها رفقة أطفالها الثلاثة حتى وصل إلى حدِّ الموت في إحدى المرات؛ ما اضطرها إلى اتخاذ قرار الطلاق على الرغم من أنفِ الأسرة والمجتمع.
استطاعت نهى النجاة بنفسها قبل أن تفقد حياتها، إذ تشير الإحصاءات إلى أن عدد حالات قتل النساء بلغت خلال العام 2019 إحدى وعشرون (21) حالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما ارتفع العدد إلى ما يُقارب الضعف ووصل إلى (37) حالة خلال عام 2020.
وعلى مدار عامي (2019, 2020) بلغ عدد عمليات قتل النساء في قطاع غزة تحديدًا (25) حالة، جاءت (6) حالات قتل نساء منها في عام 2019، و(19) امرأة أخريات قُتِلوا خلال عام 2020. وذلك وفق تقريرٍ تحليلي للباحث نبيل دويكات أصدره مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي.
على غرار نهى، تعرضت شيماء أحمد (اسم مستعار) للعنف بأشكالٍ عدة من أخيها، لكنها لم تجد سبيلًا للنجاة كسابقتها وفضّلت الصمت، تقول لـ "آخر قصة"، "أصبحت 40 عامًا ولم أتزوج وفي البيت كثيرًا ما ينعتني أخي الأكبر بكلمات جارحة منها يا عانس ويسمعني أنني عالة وعدد زائد على المجتمع".
واجهت شيماء ذلك بالصمت، وعندما حاولت إيقاف أخيها عما يتسبب به من أذى نفسي لها قام بضربها، وأوضحت"كنت أتحدث معه ألا يناديني بهذه المصطلحات فقام بضربي بزجاجة مياه كانت إلى جانبه دون رحمة ما تسبب لي بكدمات شديدة في أنحاء مختلفة من جسدي".
وتتعرض العديد من الفتيات الأخريات في قطاع غزة لأنواع عديدة من العنف، فيما ذكر تقرير صدر عن مركز الإحصاء الفلسطيني أنّ العنف النفسي هو أكثر أنواع العنف التي تُمارس ضدّ النساء والفتيات (64%)، فيما بلغ العنف الاقتصادي (55%)، أما الاجتماعي (47%)، ووصلت نسبة العنف الجسدي (26%)، بينما بلغ الجنسي (26%).
لا تقتصر هذه الأشكال المتنوعة من العنف على محافظة في القطاع دون أخرى، بل تنتشر في عموم محافظات القطاع الخمس وبنسبٍ متفاوتة على عينِ القانون الفلسطيني الذي لم يجرِ على الكثير من مواده القانونية تحديثات جديدة منذ سنّها في العهد العثماني وإلى اليوم، وتعاني من ويلات ذلك القصور جميع فئات المجتمع الفلسطيني بما فيها النساء الذين يُشكلون ما نسبته 49% من السكان.
القصور الحاصل في القانون، أكدته المحامية في مركز شؤون المرأة سهير البابا، وقالت إنّ القانون الفلسطيني يعاني قصورًا واضحًا بحق النساء من الناحية القانونية، وعلى إثره تهضم حقوق الكثير من النساء في ظلّ قوانين مرت عليها نحو مئة عام ولم يطرأ عليها تغيرات جذرية خاصة بعد تعطل المجلس التشريعي نتيجة أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2006".
غير أن، المجلس الأعلى للقضاء الشرعي يبذل بعض الجهود للتقليل من المشاكل التي ينتج عنها العنف، ومنها ما أشارت إليه البابا في سياق حديثها لـ"آخر قصة"، بإصدار المجلس اثنين من التعميمات (إداري وقضائي) خلال العام المنصرم 2022، لتخفيف المشكلات الناتجة عن تأخر قضايا الشقاق والنزاع بين الرجل والمرأة في مختلف المواضيع.
وفيما يتعلق بحالات قتل النساء على خلفيات متعددة سواء كُن عزباوات أو متزوجات، قالت البابا إنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس أصدر قرارًا بقانون رقم (10) لسنة 2014 ألغى فيه المادة (340) من قانون العقوبات الأردني رقم (16) لسنة 1960 التي تتعلق بالعذر في القتل، وعمل على تعديل المادة (18) من القانون نفسه، كما ألغى الأعذار المُخففة بحق قتل النساء على خلفية الشرف، لكن ذلك لم يعدو كونه حبرًا على ورق إذ لم يُطبق في محاكم قطاع غزة، حسبما قالت.
وإلى جانب المشكلات الاجتماعية التي ينتج عن بعضها تعنيف النساء وصولاً إلى قتل بعضهن، لم تأمن النساء في العدوانات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، والتي راح ضحيتها الكثير منهن دون أن يُحاكم الاحتلال على هذا الانتهاك.
وقد أودى العدوان الإسرائيلي الواقع بتاريخ 7 أغسطس 2022 على قطاع غزة بأرواح 4 سيدات، بينما ذهبت 63 امرأة ضحية لعدوان أيار 2021، وأصيبت 398، كما فقدت 101 امرأة أزواجهن.
نتيجة لمُختلف الصعوبات الاجتماعية والسياسية التي تُحيط بواقع قطاع غزة وما تتسبب به من أذى متعدد على النساء باعتبارهن من أكثر الفئات المجتمعية هشاشة، قال مدير عام الصحة النفسية في وزارة الصحة جميل سليمان إنَّ المشاكل النفسية التي تُعاني منها المرأة تحت وقع العنف تبقى آثارها طويلا وتطال الأبناء والأسرة بمجملها.
وبناءً على تلك الآثار الغائرة التي تصيب النساء المعنفات، أفاد سليمان، بأنّ مؤسسات المجتمع المدني أطلقت برنامج مشترك للتقليل من الآثار النفسية التي تقع على النساء نتيجة لما يعانونه من أنواع متعددة من العنف.
وقال مدير عام الصحة النفسية لـ "آخر قصة"، "إن الخيط الأول لإنقاذ النساء المعنفات هو الرعاية الأولية التي تلجأ إليها النساء من خلال المؤسسات الخاصة بذلك، ثم يتم تحويلها لبرنامج الصحة النفسية للمتابعة مع مختص نفسي حيث يتم التخلص من كافة الأثار الناتجة عن العنف".
ودعا سليمان إلى ضرورة أن يكون هناك قانون فلسطيني منصف للمرأة يساعدها على تلقي حقوقها كاملة دون انتهاك، مؤكدًا أنّ صحتها النفسية هي أحد أساسيات بناء المجتمع السليم لما تعود به بالسلامة الفكرية والنفسية على الأبناء وتربيتهم وإنشاء أسرة متينة وناجحة.