استطاع علاء مقداد (40 عامًا) الذي ولّد بقصرٍ في قامته، أن يُحقق نجاحًا واسعًا بعدما أصبح المهرج الأكثر شهرةً في قطاع غزة، على الرغم مما يُواجه قِصار القامة من مشاكل التنمر والتعليقات السلبية في الشوارع، الناتجة عن نظرة المجتمع الدونية لهذه الفئة؛ مما يجعل معظمهم يُعانون العزلة هربًا من هذه الحرب النفسية عليهم.
"الذي يُعيبك اليوم، غدا يصبح صديقك"، "الصغار سيكبرون ويفهمون"، "أنت في مجتمع يضعك أمام خيارين إما أن تكن أو لا تكن"، والكثير من هذه العبارات التي كانت تهمسها أم علاء في أذنه على مدار سنوات حتى استطاع أن يخرج للمجتمع بثقةٍ وشجاعة كبيرتين، وكانت البداية مع بيع الحلوى للمارة في الأماكن العامة.
جاب مقداد شوارع مخيم الشاطئ وغزة غربًا وشمالاً مشيًا على الأقدام كبائعٍ متجول يُعلق في رقبته صندوقه الخشبي المعبأ بالترمس والحلوى ليبيعها لأقرانه من الأطفال فواجه خوفه من تعليقاتهم بالتقرب منهم.
يقول لـ "آخر قصَّة"، "تعاملت مع الأطفال وأنا في ذات سنهم فصرفت نظرهم عن التركيز على شكلي ليلتفتوا لما أبيع"، ومن خلال هذا العمل تكوّنت شخصية المهرج باسم "علوش" بجرأتها وحسها الفكاهي الذي أهلّه للعمل في مجال المسرح مستقبلاً.
ولعلّ ذلك الميكرفون الذي كان يُداوم علاء على الوقوف خلفه بكلِ جرأةٍ في الإذاعة المدرسية التي دعمت من عمله كمهرج في معظم المبادرات والمؤسسات التي تُعنى بالأطفال والجوانب النفسية "لا يوجد في غزة مهرج يستطيع تقديم حفل أو يتحدث مع جمهوره عبر الميكروفون بطلاقة مثلي وهذا ما يميزني".
كانت شرارة انطلاق علاء نحو المسرح بعدما أنهى الثانوية العامة عام 2000 الذي شهدَ انتفاضة الأقصى، فخرج علاء للعلن مرتديًا علم فلسطين في مبادرة وطنية، وكانت المرة الأولى التي ظهر فيها كمهرج فحاز على إعجاب الجمهور؛ ليشعر أنّ هذا فعلاً ما يُحِب فعله واستمر به حتى اليوم، ليُتمم عشرون عامًا في هذا العمل.
وعلى المسرح يخرج علاء على جمهوره بلباسٍ يمزج اللونين الأصفر والأخضر، وبطلاء أحمر وأنف كبير مدبدب وباروكة فاقعة الألوان، فيشعل المكان بكلماتٍ حماسية مع رفيقه المهرج "مروش"، يكسبُ من خلالها قلوب الآباء والأمهات؛ ليدخل من خلالهم إلى قلوبِ صغارهم، "أنا خلال تجربتي شعرت أنَّ مفتاح الأطفال والديهم، فإذا ضحكوا ضحك الطفل، وهذه التجربة نقلتها خلال تعاون مع مُهرجين أجانب زاروا غزة في تبادل ثقافي".
عندما يرتدي "علوش" لباس المهرج يتقمص الدور تمامًا فينسى العالم خارج هذا الزيّ، وذات مرة تلقى خبرًا صادمًا على المسرح لكنّه كما قال، لم يُبدِ أيّة مشاعر حُزن أمام الأطفال، يقول "كنت على المسرح عندما وصلني خبر وفاة أخي لكني بين الصغار لم أُظهِر شيئًا بل أكملت عرضي بوجه المهرج الضاحك وقلبي يعتصر ألمًا".
إنَّ دور المهرج أكبر من الفكاهة واللعب مع الأطفال، وفق مقداد، الذي عدّ أنّ القرب منهم يعطيه مسؤولية في التأثير بهم وتقويم سلوكهم، وهذا ما يفعله من خلال استغلال أجواء المرح التي يصنعها للأطفال فيمرر الرسائل المهمة وسرد القصص المعبرة بأسلوب شيق يترك أثراً في قلوبهم وخاصة في قضايا كالنظافة والأمانة والسهر والالتزام بالدراسة.
لقاء هذا العمل، يتلقى المهرجون في قطاع غزةِ أجور محدودة على كل عرض يقدمونه، تُقدر ما بين 20-50 شيكلًا، فيما يُفترض أنّ يعمل المهرج في عملٍ جانبي لأن التهريج موسمي، وفق ما تحدث به علاء، مشيرًا إلى أنّ مواسم استقبال رياض الأطفال، أو الأعياد، كذلك رأس السنة الميلادية، وغيرها هي مواسم تستقطب عمل التهريج.
ولا يوجد مدرسة أو جهة معينة للتعليم على فنون هذا العمل، لكن إذا كان المهرج يحمل شهادة في الإرشاد النفسي أو دورات توعوية أو أخرى تربوية حينها يكون لديه خبرة أفضل في التعامل مع الأطفال، بحسبِ مقداد.
إضافة إلى ذلك، فإنّ المهرجين يفتقدون لوجود جسم أو تجمع يضمهم في قطاعِ غزة، لذلك يُصنف عملهم بالفردي وغالبًا ما يتم التواصل معهم شخصيًا عبر أرقام هواتفهم أو صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، إذ يُعلنون عن فعالياتهم عن طريقها.
وكان من أهم الأعمال التي أدّاها المهرج علوش، زياراته إلى الأطفال المصابون بالأمراض المزمنة الذين يقضون ساعات طويلة على أسِرَّة المرض، ليكن عمو علوش" الذي اعتادوا على وجوده وشكله وطلاء وجهه وحركاته المسلية كعلاج نفسي لهم، حتى تحولت زيارته المستمرة كمبادرة شخصية منه لشي أكثر تنظيماً بعد أن تبنتها مؤسسة تشيزي الايطالية تحت مسمى (Clown doctor) أو ما يطلق عليه التهريج الطبي.
ويُقصد بـ "التهريج الطبي" أنّه أحد مجالات الطب البديل المستعمل في المؤسسات الطبية، حيث يقوم فيه مهرجون مختصون باستخدام الإضحاك والفكاهة لتحسين وضع المرضى.
من خلال عمله هذا، حقَقَ "علوش" حلمه بالسفر خارج قطاع غزة الذي يُعاني إغلاقًا منذ 15 عامًا، وكان ذلك خلال رحلة نوعية إلى ثلاثة مدن إيطالية جاءت باستضافة إحدى المؤسسات التي تُعنى في مجال تنشيط الأطفال، وصفها قائلًا: "هذه هدية تعب عشرين عامًا في غزة كانت مدتها عشرة أيام، وكم بكيت عندما حققت حلمي بالسفر وركوب الطائرة والقطار وكل ما تمنيته فكانت رحلة العمر التي أحببت لو يُجربها كل انسان في غزة".
وقد استغل مقداد وجوده بين عدد من الجنسيات الأجنبية؛ لإيصال رسالة الحب والسلام من غزة لكل العالم وتحدث عن حقوق أطفال غزة وحرمانهم من الحدِّ الأدنى منها، خاصّة أنَّ المهرجين والمنشطين يفتقدون لمعظم المقومات التي تُساعدهم في عروضهم كألعاب الخفة والسحر والصابون اللزج الذي تقوم عليه عروض كثيرة وتشكيل البالونات التي مُنعت من دخول غزة لسنوات عديدة بفعل الاحتلال، وفق قوله.
يحلم علوش أن يفتتح رياض أطفال خاصة به بأسلوبه وخبرته التي اكتسبها، وتكون ميراث لابنته الوحيدة التي يرى فيها العالم بأسره: "ابنتي وعائلتي هي سرّ ضحكتي في الحياة، وأجمل ما يعجبني فخرها بي عندما تصحب أصدقائها؛ ليتعرفوا عليّ وأينما ذهبت تُخبر الجميع عن والدها المهرج".