"الموضوع بدأ بتلميحات اعتقدت أنّها عادية في البداية" بهذه العبارة استهلت الشابة هند أسامة (اسم مستعار) قصتها مع حادثة تحرش عانت على إثرها مشاعر خوف وصدمة كبيرين لفترة طويلة.
وكانت هند التي تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها، قد توجهت لإحدى مؤسسات الإعلام لتتلقى تدريبًا على يد أحد زملائها في المهنة، إذ وصفته بـ "المرموق" فلم تسعها فرحتها عندما عرفت أنّه سيشرف على تدريبها لكفاءته ومهارته.
أيام محدودة حتى خاب أملها بعدما لاحظت تصرفاته غير السويّة في عدة مواقف متكررة، تقول "هو يكبرني سنًا ومركِزًا فكنت أعامله باحترام وذوقٍ عاليين؛ لكن كلامه كان غالبًا مليء بالتلميحات التي سرعان ما تطورت لتواصل ليلي عبر الانترنت وأسئلة تخدش الحياء حول شكلي ولباسي في المنزل".
كان الشخص ذاته يتجاهل وجود هند في المؤسسة ويتعامل معها عند اجتماع العاملين كأنّه لا يعرفها؛ ما أثار لديها شكوكًا وتخوفات حول نواياه، إلى أنْ تفرد بها خلال متابعته لعملها وتقديمه بعض الملاحظات التطويرية، ووضع يده على يدها بقوة مع سيلٍ من كلمات الحب غير المتوقعة؛ الأمر الذي دفعها للخروج من المكان بلا عودة.
قد يبدو أن قصة هند انتهت هنا لكن الفتاة التي واجهت من زميلها تحرشًا جسديًا ولفظيًا، تواصلت مع مختصة نفسية، إذ عانت في تلك الفترة من حالة اكتئاب، كما امتد معها الخوف الشديد من التعامل مع الرجال عامةً أو الذهاب لأماكن مختلطة ومغلقة أو التقديم على وظائف لفترة طويلة؛ ما يعنى أثرًا نفسيًا لم يسهل تجاوزه.
حالات عديدة من النساء العاملات تعرضن للتحرش على اختلاف أنواعه في أروقة العمل، وكان لدى بعضهن الوعي لمراجعة العيادات النفسية وأُخريات لم تخرج قصصهن خارج حدود غُرفهن ووسائدهن ودموعهن الليلية؛ لخوفهم نظرة المجتمع الذي غالباً ما يُلقي اللوم على الفتاة ومظهرها دون معرفة التفاصيل في حالِ انتشار أيّ قضية.
وكانت رصدّت جمعية عايشة لحماية المرأة والطفل، خلال تقارير صادرة عن الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين خلال عامي 2020 و2021، عدد الحالات التي تعرّضت للعنف والتحرش الجنسي وقد بلغت 310 حالة، من ضمنهم 3 حالات اعتداءات جنسية في أماكن العمل، وفق منسقة العيادة القانونية في الجمعية هبة الدنف.
بشيء من التخصيص، ظهر في ورقة بحثية صدرت عن مركز شؤون المرأة عام 2022، معنونة بـ "التحرش الجنسي في أماكن العمل: داخل المؤسسات الأهلية والخاصة"، واستُخدِمت فيها عينة على عدد (602) ضمن مجموع الأدوات البحثية المستخدمة، أنَّ التحرش اللفظي كان أكبر أنواع التحرش انتشارًا وبلغ 30%، وجاء غير اللفظي على نسبة مُقاربة بواقع 29%، فيما بلغت نسبة الجسدي من بقيّة الأنواع 25%.
نتيجة لهذه الممارسات غير اللائقة في أماكن العمل، تقع آثار نفسية عميقة تُشير إليها المختصة النفسية فلسطين ياسين، التي أوضحت أنَّ المرأة التي تتعرض لتحرش في بيئة العمل تُعاني مشاعر اكتئاب ودونية ولوم للنفس خاصّة وأنَّ مجتمعنا مازال يُعاملها على أنّها السبب في أيُّ انتهاك تتعرض له ويُوجِه لها الاتهام قبل أن يُحاسَب المُتحرش.
وقالت ياسين في مقابلة مع "آخر قصّة"، "إنّ المتحرش شخص لديه ميول انحرافية ومشاعر نقص وعدم اشباع للرغبات، وإذا وقعت الجريمة فلا تبرير لها مهما كانت الحالة النفسية للجاني، حتى وإن ثبتت لديه مشاكل نفسية تدفعه لأفعال كالتحرش وفي هذه الحالة وجبَ عقابه في مصحة نفسية وليس تركه دون عقاب".
في المقابل، يصعب على المرأة تجاوز حادثة من هذا النوع بسهولة، فهي تحتاج لعلاج نفسي يبدأ من 3 شهور على الأقل ويمتد بحسب حجم الأثر، وذلك ضمن جلسات تفريغ ودعم لمدة 40- 45 دقيقة أسبوعيًا، بحسبِ ياسين، إذ أكّدت على أنَّ وجود بيئة داعمة يُسهّل العلاج أكثر من تواجدها في بيئة هادمة تُلقي عليها اللوم والشعور بالذنب.
وبيّنت ياسين أنّ معظم الحالات التي تعاملت معها حدثت في بيئات العمل من أشخاص ذوو منصب إداري استغلالًا لحاجة العاملات في ظلّ ارتفاع معدلات البطالة في قطاع غزة، ونوّهت إلى دور المراكز المختصة بالمرأة في حمايتها والحفاظ على سرّية ما تمر به خلال علاج مشكلاتها خاصّة قضايا التحرش، إذ تُعد هذه المراكز سبيلًا مهمًا لتخطي هذه الوقائع.
ورغم وجود دراسات وإحصاءات تشير إلى وقوع ضرر على المرأة لكن الدنف تؤكد على أنَّ القانون لم يذكر التحرش ضمن بنوده بوضوح، إذ قالت: "التحرش كمصطلح يغيب عن المنظومة القانونية تعريفاً أو عقوبات، وهذا يقف حائلاً دون اتخاذ العقوبات ضدَّ المتحرشين، خصوصاً قانون العقوبات الفلسطيني رقم 16 لعام 1960، المادة رقم 36".
يُجرِّم هذا القانون جرائم الاغتصاب وهتك العرض وخدش الحياء العام، لكنه بحسبِ الدنف، لم يتطرق لهذه الجرائم ضمن بيئة العمل وتحدث عنها باعتبارها جرائم تخدش الحياء العام في الطريق العام أو بمعنى لم يكن هناك تخصيص لارتكاب مثل هذه الأفعال في بيئة العمل باعتبارها ظرفًا مُشدّدًا.
ووفق الدنف، فإنَّ النصوص المُتعلقة بقانون العمل الفلسطيني رقم (7) لعام 2000 وقانون الخدمة المدنية رقم (4) سنة 1998، لم تنشر أي مواد مُتعلقة بالتحرش الجنسي في أماكن العمل، كما أنَّ مدونة السلوك الخاصة بالوظيفة العامة تخلو من أي اشارة لها؛ ونتيجةً لذلك فإن مؤسسات المجتمع المدني أقرّت مدونات سلوك تُشير بوضوح إلى منع التحرش في بيئة العمل لكن الأمر يتعلق في حدود المؤسسات المدنية فقط ولم يُعمَم على المستوى الرسمي.
وبحسبِ المعايير الدولية، هناك اتفاقية للقضاء على العنف والتحرش في العمل، حسبما أفادت الدنف التي ترى أنّه من الواجب على دولة فلسطين تحسين القوانين لتبني هذه الاتفاقية بحيث تصبح تشملها كافة القوانين الفلسطينية وبما يتضمن وجود مساءلة من خلال أدوات حقيقية وعقوبات رادعة تحدّ من التحرش في بيئة العمل وتُمكِّن النساء من استخدام وتفعيل أدوات الشكوى ومتابعتها.
كما عرّف مؤتمر العمل الدولي الاتفاقية 190 "العنف والتحرش" في عالم العمل إلى مجموعة من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، وإذا كانت تهدف أو تؤدي أو يحتمل أن تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي، وتشمل العنف والتحرش على أساس نوع الجنس.
وأقرّت الاتفاقية أنّ بحق كل إنسان التمتع بعالم عمل خالٍ من العنف والتحرش، بما في ذلك المبني على أساس نوع الجنس أو إساءة لحقوقه، وأوضحت أنّ هذه الظاهرة يُمكنها تشكيل انتهاكًا للإنسان، باعتبار أنّها تهديد لتكافؤ الفرص وظاهرة غير مقبولة تتنافى مع العمل اللائق، كما بيّنت أهمية وجود ثقافة عمل تقوم على الاحترام المتبادل وكرامة الإنسان لمنع العنف والتحرش.
بدورنا توجهنا في "آخر قصّة" إلى مدير عام الشؤون القانونية في المجلس التشريعي، أمجد الآغا، الذي وافق الدنف وقال إنّه لم يرد في قانون العقوبات الفلسطيني 74 لسنة 1936 الساري المفعول في قطاع غزة منذ ذلك الحين وإلى اليوم، أي مادة تنص على مصطلح التحرش.
إلا أنّ الآغا عزا ذلك إلى وجود بعض مواد قانونية قد تُطابق نفس المعنى؛ ولكن لابد من تفريق أنواع التحرش لمعرفة المادة التي قد تنطبق على الجريمة، لكنه أكّد على أنّ بيئة العمل تفتقد لوجود أيّة نصوص قانونية تتعلق بالتحرش تحديدًا.
بناءً على ذلك، طالب حقوقيون القانون الفلسطيني بتضمين مصطلح "التحرش" كجريمة يجب العقاب عليها، وكجريمة فساد خاصة في الوظيفة العامة، على اعتبار أنّه أحد أشكال استغلال السلطة والصلاحيات، وإساءة استغلال قوة الموظف المتاحة لأغراض جنسية، وهو ما وصفته الدنف بأنّه أخطر أشكال الفساد الممارس ضمن الوظيفة العامة أو الخاصة.