على حافةِ رصيفِ أحد الأسواق وسطَ قطاعِ غزة، رصّت الخمسينية مريم (اسم مستعار) بعضًا من الخضار والبقدونس والبصلِ الأخضر؛ لبيعها بأسعارٍ زهيدة لا تكاد تُقيت يومها، فيما تجلسُ مفترشةً قطعةً من النايلون تَحمي فيها ثوبها من ماءِ تنظيف أحدِ المحال التجارية المُحاذية وهي على حالها هذا منذ ثمانية أعوام.
تلخصت حياة مريم اليومية بالبيعِ على الأرصفة منذ أن حملت لقب "مطلقة" وتكفلت بإعالةِ أبنائها الخمسة، تقول "اليوم الذي لا أذهب للعمل لا نأكل فيه"، تُغطي وجهها بشالٍ أسودٍ شفاف فلا تُعرف هويتها لكن تجاعيد يديها تُشير إلى حجمِ الشقاء، حتى أنّها "تكره النهار" على حدِ وصفها، وجلّ طموحها هو أن تختفي عن نظرِ الناس في السوق.
تتمنى مريم لو "تستقر في بيتها بين أولادها، لا تخرج إلا لزيارةٍ أقارب أو جيران بملابس وهندام نظيف، قالتها وغرغرت عينيها بالدموع فهي تعلم مدى صعوبة ذلك خاصّة وأنَّ أبنائها بحاجةِ عملها بعدما هجرها زوجها مسافرًا خارج البلاد وطُلِقت على إثرِ مرور السنين، فأصبح "الشارع" مكان عملها الذي تَحفه الكثير من المخاطر وأقل ما يُقال فيه أنّه بيئة عملٍ غير لائقة بالنساء، فلا يقي من حرّ الصيف ولا بردِ الشتاء ولا مُضايقات الناس.
وفي قطاعِ غزة الذي بلغت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة فيه 17% من مجملِ النساء في سنّ العمل في عام 2021، تجد العديد من السيدات اللواتي لم يُدرجن في تلك النسبة منهن مَن يبعن المناديل الورقية على الطرقات، أو الخضار على أرصفةِ الطريق، وغيرهن أيدٍ عاملة في حراثة الأرض وأخريات في صناعةِ المنظفات البيتية، وكلها أعمال تأتي في إطارٍ غير منظم أو هشّ، فلا دخل ثابت ولا مكافأة نهاية خدمة، ولا إجازات مدفوعة ولا أمانٌ وظيفي.
وهُنَّ في المعظم لم ينلن درجةٍ علمية عليا، والكثير منهن ترأس أسرهن إذ شكّلت الأسر التي ترأسها نساء في قطاع غزة لعام 2020 نسبة 9%، يتحملن على إثرها المسؤولية الاقتصادية للبيت، ويُساهمن في رفعِ مستوى الأسرة الاقتصادي؛ نظرًا لغيابِ الرجل أو "الزوج"، أو مرضه، كعدم قدرته على العمل أو قلّة كفاية راتبه.
وفي ظلّ تلك الظروف، تجدهن يعملن بلا أجرٍ غالبًا، ودون تقديرٍ لقيمة أعمالهن، رغم استعدادهن التام لنكران الذات وقدرتهن البالغة على التحمل والتضحية، وما يبدو ظاهريًا أنهن غير مُكترثات بما أصاب أنوثتهن من خدشٍ بالغ على إثر انخراطهن في هذه الأعمال الشاقة.
من هؤلاء النساء أيضًا أزهار السميري (33 عامًا)، لكن ملامح وجهها تُقدّر عمرًا تجاوز الخمسين، فعملها في زراعةِ الأرض وحرثها أضاف على سنينِ عمرها سنينًا أُخر، وهي ليست جديدة عهدٍ بلقبِ "مزارعة" إذ أنّها كانت طفلة لا تتجاوز السابعة عندما بدأت تساعد أبيها في تنقيب العشب من بين الأشجار والزراعة لاحقًا، تقول "سعدتُ عندما تقدم أحد أقاربي لخطبتي لأنني ظننت أنّي سأترك الزراعة وأصبح سيدة في بيتي".
لم يكن ظنّ أزهار في محلّه أبدًا فزوجها يملك أرضًا في منطقةٍ حدودية على أطرافِ مدينةِ خانيونس جنوب قطاعِ غزة، ولم تهنأ كثيرًا بكونها "عروسًا" حتى عادت لفلاحة الأرض من جديد باعتبارها مصدر الرزق الوحيد للعائلة. سألتها عن ساعاتِ عملها، ردت "من طلعتها لغيبتها" في إشارة إلى أن هذا العمل يمتد من شروق الشمس إلى غروبها؛ مما يعني أنّه يتجاوز الاثني ساعة يوميًّا.
ولا يتوقف العمل عند النصف الآخر من اليوم البتة، ففي البيت ما زالت هناك أعمال "الطهي، التنظيف، الرعاية" لأن ثمة زوجٍ وثلاثة أطفال ينتظرون، تضحكُ ساخرة وقد شردت عيناها مستذكرة في حديثها مع "آخر قصّة" آخر إجازة تلقتها من العمل، "آخر مرة مكثت في البيت كانت عندما أنجبت طفلي الأخير، كانت أقل من أسبوعين ثم عدت للعمل".
تلك الفترة التي تأخذ فيها كل امرأة عاملة "إجازة أمومة" لم تحظى بها أزهار أيضًا، وحتى اليوم لم تنسى كيف كانت تضع وليدها على مسافةٍ قريبةٍ منها أثناء عملها في الفلاحة حتى يتسنى لها سماع صوتِ بكائه، وكثيرًا ما حملته على ظهرها وقد لفته بشالٍ طويل فيما يديها تواصل الزرع والحصد، وفي الفيء تجلس تارة ترضعه وتارة تبكي معه على نفسها وحالها.
وقد كان من المضحك المبكي أن تسأل سيدة مثلها عن أجرها رغم أنّ ساعاتِ عملها تفوق الكثير ممن يعملن أعمالٍ مكتبية أو غيرها. وهي أنثى لا تخلو نفسها من الرغبات، عندما سألتها عما تتمناه كان أن ترى يديها نظيفة من العمل، وقالت "أريد أن أجلس في البيت كالنساء براحة بال وجسد كأنّ ليس على قلوبهن همّ أبدًا".
هذه الأمنية قد تكون أساس لمشاكل نفسية عديدة لمريم وغيرها من هذه الفئة، بحسبِ ما أكّدت عليه المختصة النفسية والاجتماعية نهى الشنطي، فقالت لـ "آخر قصة"، "إن الصحة النفسية لهؤلاء النساء بالكاد تكون جيدة، فهن يعانين القلق الدائم والاكتئاب المزمن؛ مما يؤثر سلبًا على حياتهن الأسرية وانخراطهن مجتمعيًا بطريقةٍ سليمة، فكثرة المضايقات وقلة الوقت لديهن وضيق الحال يُضفي ضعفًا وركاكةً على شخصياتهن وعلاقاتهن مع المجتمع المحيط بهن".
يقف القانون الفلسطيني بجانب أزهار ومريم وغيرهن الكثير ممن يعملن في مهنٍ هشة، بلا حقوق، وبأعمالٍ تفوق طاقتهن الجسدية والنفسية والعاطفية، فيحظرً عمل النساء في الأعمال الخطرة أو الشاقة وذلك في قرارٍ من وزير العمل رقم (2) لسنة 2004، إذ تضمن العمل في المناجم والمحاجر وأعمال الحفر تحت الأرض، وصناعة المفرقعات والمواد المتفجرة والأعمال المتعلقة بها.
إضافة إلى ذلك، يحظر القانون عمل النساء في صناعة ومعالجة الإسفلت، إلى جانب صناعة الكحول وكافة المشروبات الروحية، أيّضًا صناعة واستعمال المبيدات الحشرية، كما يحظر عملهن في جميع أعمال اللحام التي يصدر منها أشعة وغازات ضارة، أيضًا الأعمال التي يدخل بها بعض المذيبات التي تستخدم في تنظيف الماكينات والملابس كيماويًا، وأخير العمل في الغابات وقطع الأشجار والمحميات الطبيعية.
وبلا شك فإنّ أعمالًا كتلك تمس كرامة المرأة ووجدانها، بحسبِ ما أفادت منسقة العيادة القانونية في جمعية عايشة لحماية المرأة والطفل هبة الدنف، أنَّ للمرأة حق في العمل ولكن بما يتناسب مع طبيعتها وبما لا يمس كرامتها وفق ما نصّ عليه القانون الفلسطيني رغم أنّه ليس مُطبقًا على واقع النساء العاملات في المهن الهشة.
كما أشارت الدنف أنّ جلَّ هؤلاء النساء يُفضلن هذا العمل على أن يُتركن لقمةً سائغة في فمِ الفقر، فلا يُفكرن في تركه خشيّة الفاقة ومدّ يدٍ العون للآخرين، بينما دعت إلى ضرورة تفعيل دور وزارة العمل في تطبيقِ القانون، والسعي إلى الحدِّ من عمل النساء في هذه المهن حفاظًا على سلامتهن الجسدية والنفسية على حدٍ سواء.
توجهت "آخر قصة" إلى وزارة العمل لمعرفة الدور المنوط بها إزاء هذه الفئة، وقال حسين حبوش مدير دائرة شروط العمل في الوزارة، أنّهم لا يملكون أيّة إحصائيات حول نسبة النساء العاملات في المهنِ الهشة، منوهًا أنهم غير مدرجين في قوائم الوزارة فلا رقابة أو تفتيش عليهن ولا يمكن مساعدتهن في مشاريع تشغيل مؤقتة أو صغيرة، وذلك كونهم يعملن بلا أربابِ عمل، حسب تعبيره.