غياب قانون صارم يُضيع حقوق الأطفال ضحايا التحرش

غياب قانون صارم يُضيع حقوق الأطفال ضحايا التحرش

لم تَكن "ليلى" تعلم أنّها ستحملُ في ذاكرتها عبَء قصةٍ مأساوية لنحوِ عشرين عامٍ من عمرها، تقول: "كنت طفلة عندما تحرش بيّ أحد المقربين، وها أنا أصبحت 26 عامًا وكأنّي ما زلت في ذلك الموقف إلى اليوم". 

تمرُ سنوات وقد يَنسى الجاني فِعلَته ولكن أنّى لطفلٍ وقع ضحيّة لمتحرش أنَّ ينسى ذلك الوجه، أو يَعيش مُتجاهلا النُدوب التي هزّت أعماق روحه يومًا، والتي ربما لا يكون الوقت كفيلًا لحلّها أبدًا، فليلى التي حاول أحد أقاربها أن يُقنعها بأنّها "لعبة عادية" لم تزل تبغض رؤية الفاعل إلى اليوم وتتجنب حضور أيّة مناسبات تجمعها به. 

تردف ليلى -اسم مستعار- في حديثها لـ "آخر قصة": "كان أكبر خطأ في حياتي أني لم أُخبر أحد عن الأمر، واستطعت كتمانه إلى اليوم لأنني بالفعل كنت خائفة للغاية ولم أجد في حيّنها التعابير المناسبة لشرحِ ما حدث، رغم ما تسببت فيه الحادثة لي من آثار نفسيّة على مر السنين".

والتحرشُ في الأطفال هو الاعتداءُ الجنسيّ عليهم واستخدامهم لإشباعِ الرغبات الجنسية لبالغٍ أو مُراهق، ويشمل تعريض الطفل لأيِّ نشاط أو سُلوك جنسي، فيما يَتضمن غالبًا التحرش الجنسي في الطفل من قبيل مُلامسته أو حملهِ على مُلامسة المُتحرش جنسيًا. 

"ليلى" ليست حالة نادرة في غزة، فقد تعرضت 700 حالة أخرى للتحرش الجنسي وفق دراسة أعدّها المركز الفلسطيني للديمقراطية وحلّ النزاعات عام 2015، فيما أظهرت الإحصاءات أن أكثر من مئتي حالة زادت فيهم نسبة الذكور عن 60%؛ مما يعني ارتفاع معدل التحرش الجنسي بالأطفال الذكور مقارنةً بالإناث. وبيّنت أنَّ عدد كبير من الضحايا تعرضَ للتحرش من شخصٍ معروف أو مُقرب من الطفل. 

وقد يبدو غريّبًا للعامة، أن يتعرض الذكور لهذه الظاهرة، لكن "أحمد" -اسم مستعار- الذي لم يتجاوز الرابعة والنصف في حينها وقع ضحية إلى جانب أطفال كثر. وكان قد خرج الطفل صباحًا لشراءِ لوحًا من الشكولاتة من دكانِ جارهم البقال المُلاصق للبيت؛ لكن اختفاؤه لأكثر من ساعتين على غيرِ العادة أثار شكوكًا كبيرة في نفسِ والدته التي هبطت للأسفل تبحث عنه والخوفُ تملكها.

تقول والدة أحمد والحزن يعتريها في حديثها لـ "آخر قصّة": "قلقت كثيرًا فخرجت للشارع أبحث عنه في كل مكان، وفجأة خرج من بيتِ جيراننا في حالة مأساوية، كان وجهه أصفر وآثار الكدمات واضحة على اليدين والوجه ولم يكن ينطق أو يستجيب أبدًا".

بعد ساعاتٍ من محاولات الأم الحانية مع أحمد استطاعت معرفة أنَّ ابن جيرانهم صاحب الدكان الذي يبلغ من العمر 21 عامًا، اختلى بالصغير، وجرده من ملابسه وقد تحرش به؛ تاركًا على جسده آثارًا قد تشفى، وعلى نفسه ما يصعُب شفاؤه. 

لثلاثةِ شهور استمر الأهل في علاجِ الطفل نفسيًّا من هولِ ما أصابه، فيما اضطر أهله تركِ البيت والرحيل لمكانٍ آخر في محاولة لينسى ابنهم الحادثة المؤلمة، لم يكن الأمر سهلًا مرت سنوات وحدثت تغيرات كثيرة في شخصيةِ الطفل على إثرِ الحادثة كالوحدة والعُزلة وعدم الشعور بالأمان كخوفه الشديد من خدشِ خصوصيته بأيّ شكلٍ كان.

وماذا عن ذلك الجاني، تُجيب والدة أحمد: "أرسلوا لنا وجهاء الحي والمنطقة مرات عديدة وحاولوا حلّ الأمر بعيدًا عن الأمن؛ لكننا لم نتنازل عن حق ابننا وبلغنا الأمن من اليوم الأول فحبسوه لـ 6 أو 7 شهور فقط، ثم خرج كأنّه لم يفعل شيئًا".

يفتقد قطاع غزة إلى وجود قانون صارم يحمي الطفل المتحرش به من هذه الجريمة، وفق المحامي زياد الجوراني، الذي أكّد أنّ مفهوم التحرش لم يُدرج في قانون العقوبات رقم 74 لسنة 1936 الفلسطيني.

وقال الجوراني لـ"آخر قصة"، "تطرق القانون إلى جرائم أخرى مثل هتك العرض لكنه لم يشمل التحرش اللفظي والكلامي أو الجنسي، أما بالنسبة للعقوبات فإنّه بموجب قانون العقوبات الفلسطيني يُمكن تكيف جريمة التحرش في باب 17 تحت عنوان الآداب العامة".

ووفقًا لذلك، فإنّه يصعب معاقبة المتحرشين لعدم وجود جناية بهذا الاسم، بحسبِ الجوراني، حيث يشير المحامي إلى أنّه من ناحيةِ العقوبات فيُمكن إدراج بعض الحالات في إطار هتك العِرض وهو جناية عقوبتها الحبس من 3-15 سنة، أو ضمن إبداء أفعال منافية للحياء في الطريق العام على مسمعٍ من الناس ومرآهم وهذه جنحة عقوبتها السجن من أسبوع إلى ثلاث سنوات.

يعاني العديد من الأطفال وتضيع الكثير من الحقوق على إثرِ عدم وجود قانونٍ حامٍ للأطفال من التحرش، في ظلّ اللجوء إلى الحلّ العشائري في معظمِ الأحيان لاعتبارات الخوف من الفضيحة و"تلوث" السُمعة والذي لا يكون مُنصفًا عادةً، إضافة إلى غياب الأرقام والإحصاءات الحديثة نتيجة لغياب مفهوم التحرش في القانون.

تَوجه فريق "آخر قصة" إلى عدد من الجهات المُختصة من بينها المؤسسة الرسمية؛ لكن الجميع رفض التحدث من باب أن التحرش في الطفل ليست ظاهرة وأن هناك العديد من القضايا أهم يمكن للإعلام تسليط الضوء عليها، في تجاهلٍ تام لما تتسبب به هذه الجريمة من آثارٍ نفسية على الطفل وعائلته كاملةً قد تمتد لسنواتٍ طوال.

وغالبًا ما يلتزم الطفل المُتحرش به الصمت تمامًا فلا يتكلم، بحسب المختصة النفسية سمية أبو حية، التي قالت إنّ ذلك ناتجٌ عن تَعرضه للصدمة والخوف من الشخص الذي تحرش به، مبينةً أنّه مما لا شك فيه أن الجاني يطلب من الطفل ألا يتكلم مع أحد في الأمر باعتباره خاص وإلا سيعاقبه في حال أفصح عما حدث.

في تلك الحالة ورغم صمت الطفل فثمة علامات تظهر عليه، وفق ما تحدثت به أبو حيّة لـ "آخر قصة": "هذه العلامات هي البكاء غير المبرر فيصبح لديه تبول لا إرادي وأحيانًا تبرز لا إرادي، وإذا تكرر التحرش يُصاب الطفل بالتهابات في الأعضاء التناسلية، كما يصبح نومه متقطعًا فيستيقظ على كوابيس ويفقد شهيته، فهو يصبح باختصار انطوائي ويُفضل الصمت".

ونتيجةً لذلك فإنّ من الأهمية بمكان أن يُعرَض الطفل الضحية على مختص نفسي لعلاج ما أسمته أبو حية، اضطرابات ما بعد الصدمة وإعادة تأهيله نفسيًا واجتماعيًا، فكلما تأخر العلاج ستظهر أعراض جديدة وخطيرة، وفق قولها.

ونصحت أبو حية الأهالي في كل مكان بالتوعية الثقافية الجنسية في البيوت من خلال إخبار الوالدين لأطفالهم أنّ أجسادهم هي ملك لهم، وإرشادهم إلى عدم جواز لمسها من قِبل أي أحد، كما دعتهم لمراقبة الأطفال عند الدخول في الحمامات العامة، وعند مشاهدة الأفلام، وضرورة التحدث إلى الطفل على الفور في حال ظهرَ على سلوكه تغيرات غريبة.