تذهبُ ايمان شنن (53 عام) للجلساتِ العلاجية من مرضِ "سرطان الثدي" بملابسٍ زاهية ومُبهجة فيما تختار باقات الورود التي تنتظرها في غرفةِ الإفاقة بعنايةٍ فائقة، على عَكس ما هو مُتعارف عليه من نفسيةٍ سيئة ومزاجٍ مُتقلب تُعانيه معظم النساء المُصابات اللواتي يذهبنَ لتلقي العلاج في إطارِ سلسلة التَعافي من المَرض.
تقول: "لم أفكر للحظة باليأس بمجرد أن أجريت فحصًا مبكرًا وعرفت بالخبر، بدأت فورًا أتجهز نفسيًا للعلاج، فأذهب لصالون التجميل قبل الجلسة بيوم وأقوم بجلسات تقليم أظافر وتسريح شعر وأقضي النهار في شراء ملابس جديدة، وأتحضر لاستقبال المُهنئين بسلامتي بعد كل جلسة في غرفةٍ تغمرها الزهور المُنوعة".
على عكس ما يعتقده بعض النّاس أن الإصابة بمرض "السرطان" هي نهاية الحياة، كانت إيمان وهي شخصية ريادية تقف على الطرف الآخر من المُعادلة، معلنةً انطلاقتها الحقيقة نحو العمل ومقاومة المرض، وقد عرفتها المنصات والمسارح والجمعيات الخاصة بالمرأة بوجهها المُشرق وحديثها الباعث للأمل، تقفُ تُشجع النساء على الكشف المبكر وتحدى حاجز الخوف.
ويبدو في مجتمعٍ كغزة يفتقد لأساسيات العلاج والحياة أن فكرة "الفحص المُبكر" هي محضّ ترف، بينما أكّدت شنن أنها كانت محظوظة للتعرف على إصابتها بالمرض في مراحله الأولى؛ الأمر الذي ساعدها على التعافي بسهولة؛ كما ترى في توعية النساء بالكشف الدوري "معركةٌ أساسية"، تقول لـ "آخر قصّة": "لا يقتصر الدور على المؤسسات الصحيّة فقط؛ بل على وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة والمؤسسات الأهلية والجميع رجالاً ونساءً".
ولإدراك أهمية الفحص المُبكر عن المرض، وفق مختصون، يكفي التمعن في التجارب الحقيقية، إذ تشير الإحصائيات إلى أن الكشف المبكر يفيد في إطالة عمر 90% من المرضى الذين يُعانون من عدة أنواع من السرطان أبرزها "سرطان الثدي، المبيض، المثانة" بنحوِ 5 سنوات مقارنةً بالمرضى الذين يكتشفونه في مراحل مُتأخرة.
وفي إطار الكشف المُبكر كان لهناء اسليم (55 عام) حكاية أخرى، إذ أجرت فحصًا يدويًا منزليًا وبعد ليالٍ من القلق وقلّة النوم، دفعها وعييها الكافي واطلاعها على الأمر إلى التوجه لطبيبة خاصّة التي بدورها طمأنتها أنَّ كل ما تشعر به هو مجرد "اضطرابات هرمونية". لم ينتهي الأمر هنا عندما لاحظت هناء أعراضًا أخرى أكثر وضوحًا فتوجهت إلى إجراء فحص أكثر دقة يتمثل في أخذ خزعة من الكتلة.
"طلع الفحص وعندك سرطان"، قالها الطبيب بصيغةٍ مُفاجئة لهناء دون مقدمات أو مراعاة لصعوبة وقع المرض على النفس، تقول: "مرت سنوات ولم أنسَ كيف أخبرني الطبيب بالأمر دون تمهيد في لحظة أيقنت بعدها أنني سأنتقل لمرحلة جديدة من الحياة تختلف عما سبقها، مرحلة ملؤها العذاب والصبر والعلاج والألم الممزوج بالأمل".
بعد فترة، وبفضلِ دعم زوجها وعائلتها استطاعت هناء أن تتجاوز الصدمة الأولى إثرَ تلّقيها للخبر، تُوضِح في حديثها لـ "آخر قصة": "الدعم النفسي خفّفَ عني المرض وخاصة عندما كنت أجري جلسات العلاج الكيميائي عام 2016، وكنتُ أذهب للجلسات وأنا أعيّ وأفهم ما أقوم به فكانت تغمرني الروح الجميلة والنفسية القوية".
استمرت هناء بالعلاج بمراحله المختلفة الكيميائي والهرموني والبيولوجي حتى عام 2021، إلى أن استطاعت هزيمته؛ لكن بعد مرور وقت أخبرها الطبيب بظهور بعض النتوءات من جديد، تقول: "لقد أعطاني الطبيب أملاً بإمكانية الشفاء من جديد وكان أسلوبه هينًا فساعدني على تقبُل الأمر بشكلٍ أفضل من المرةِ الأولى وبعزيمةٍ أقوى".
غالبًا ما تكون الإصابة بالسرطان إحدى أكثر التجارب إرهاقًا في حياة المرأة حيثُ تمر المريضة بسلسةٍ من الأمراض النفسية، منذ أن يتم تشخيصها بالإصابة بالورم، إلى مرحلة التعايش والتقبل تتخللهما معاناة وأحزان وإنكار وغضب مع استمرار الحزن، بالإضافة إلى مشاكل تتعلق بنفسيةِ المرأة بعد عملية استئصال الثدي وعدم إجراء جراحة تجميلية لزراعة الثدي؛ مما يترك نُدوبًا على الجسد قد لا تتعافي منها روح المرأة.
لا يتوقف الأمر عند نفسية المرأة إثر تلقيها الخبر وما بعده من مراحل علاجية مُرهِقة، لكن لواقع قطاع غزة المحاصر، والنقص الحاد في المعدات والكوادر الطبيّة، وكذلك عدم إمكانية دخول الكثير من الأدوية أزمةٌ أخرى، تقول شنن: "عرقلة السفر للضفة الغربية أو الداخل الفلسطيني المحتل يزيد من سوء الأمر على المريضات".
ويُعد أسلوب العلاج الجماعي من الأساليب الفعّالة والمُفيدة لمساعدة مرضى السرطان؛ فالدراسات الحديثة تُشير إلى أنّ التدخلات النفسية الفعّالة والمناسبة مُكوِنًا ضروريًا للرعاية الشاملة لمرضى السرطان وليس علاجًا ثانويًا، فهذا الأسلوب له دور فعّال في الحدّ من المعاناة النفسية المرتبطة بالمرض وتعزيز التأقلم.
جمعية العون والأمل واحدة من الجهات التي تستخدم هذا الأسلوب العلاجي وهي تُعنى بمريضات السرطان تحديدًا، فيما أفادت مُنسقة ملفات المرضى فيها، إنصاف إسماعيل، بأنَّ لديهم العديد من البرنامج يُقدمونها للمريضات اللواتي يتجاوز عددهن 1700 مريضة، ومنها توفير الدعم النفسي، والعلاج الكامل، ابتداءً من رحلة العلاج حتى انتهائها، بما يتضمنه من رحلات ترفيهية تُعد الأقرب لقلب المريضات.
ومن الخدمات التي تُقدِمها "العون والأمل" لتحقيق تلك الأهداف، برنامج الكشف المبكر عن سرطان الثدي وتعليم الفحص الذاتي، وصناديق العلاج، إذ أقامت الجمعية صندوقين لعلاج مريضات السرطان، أحدهما لمساعدة المصابات في تكاليف العلاج، والآخر لتوفير علاج بيولوجي "هيرسيبتن" من الخارج للنساء غير القادرات على السفر.
هناء وايمان وآلاف المصابات عاشوا أيام طويلة من الألم المُحتَّم الذي لا يُخفِف ألمه سوى الاهتمام والدعم النفسي، ويُشكِل سرطان الثدي أعلى نسبة بين أنواع السرطانات الأخرى التي تُصيب النساء بنسبةٍ تصل إلى 34%، كما تُشير الإحصائيات الرسمية إلى تسجيل 363 حالة سرطان ثدي جديدة في قطاع غزة خلال عام 2021؛ مما يجعل من "الكشف المبكر" حاجة مُلحة وضرورة واجبة.