بعدَ أن تضعَ قدمِك في هذا المَعمل البسيط للحياكة، بجدرانِّه المتهالكة وشقوقه المتناثرة وآلاته القديمة، يُنعش في ذاكرتكِ رائحة من الإرث الجماليّ العتيق تُبعثُ من الأزرار التي يزيدُ عمرها عن عشرين عام، تحملها السيّدة الخمسينيّة أم علي بصل بين كُفوفها الماهرة التي تستخدمها لتسجيل قياسات الزبائن بالشبرِ والإصبع، فمشهد الخيَّاط الذي يُعلِّق على رقبته الشريط المتري لن تُشَاهده عندها، فيما تتركك مذهولاً من صِحة القياسات ودِّقتها، هنا يقفزُ مباشرة إلى ذهنِك سؤالٌ واحد: كيف يخرجُ من هذا المَعمل فستان زفافٍ عصري؟
"جاءتني العَروس في صباحيةِ يوم زفافها تحملُ الحلوى وتكادُ تطيرُ فرحًا تشكُّر لي تحقيق حُلمها بصنعِ فستان زفافها النادر وقد كانت هذه واحِدة من أجمَل السَعادات التي صنعتها فيما تغنَّى الحضور بذلك الفستان" تقول أُم علي، والفرَح يغمرُ تقاسيم وجهها الخمسينيّ وقد صنعت لفتاةٍ "فستان العمر" غرزة بغرزة ليبقى في رصيدِ ذكرياتها ومقتنياتها.
قد يبدو للوهلةِ الأولى أن سيّدة في عمرِ أم علي بصل، سيقتصر عملها على خِياطة أثواب السّيدات كبار السنّ اللواتي يتسمِنَ بذوقٍ كلاسيكيّ قد لا يجدونه بسهولةٍ في الملابس المستوردة، لكنّ عملها أوسع بكثير فهي تهتم بكافة التصاميم العصريّة التي تَلفِت انتباه الفتيات الشابات.
تقول: "الخبرة والاستمرار بالعمل يُساعدني على تصميم كافة الموديلات وأخذ القياسات بالطريقة البدائية التي لم يعُد يَعمل بها أحد.. بالشبر طبعاً".
هي ليست مجرد لحظة فارقة بين تَحوّل الأقمشة الصَمّاء إلى فساتينٍ وملبوسات مُبهرة تُنافس في جمالها التَصاميم العالمية وكأنّها وقعَت بين يديّ ساحر؛ بل هي أيام وليالٍ من السهر والتصميم والقياس والحياكة على يدِ خياط مُحترف يَحيك القطعة على مقاس أحلامك وليس جسدك فحسب.
لم تَمنع الأوضاع السياسيّة والاقتصادية الصَعبة -الناتجة عن الحصار المستمر منذ 15 عاماً- التي حوّلت قطاع غزة إلى سوقٍ استهلاكي، ولا الحَداثة واستيرادِ الملبوسات الأجنبيّة من أن تبقى مهنة الخياطة تتصدَر المهن في قطاعِ غزة من حيثُ الطلب والإنتاج، وأنّ تُواصل أُم علي وغيرها الكثير من الخَياطين ومُصممي الأزياء مِهنتهم بحرفيةٍ عالية.
وأتاحَ وجود آخر قصة في المَعمل الصغير الذي تديره السيدة "أم علي" ويزدحم بالزبائن، أن نتحدث مع الزبونة علا وهي ثلاثينية العمر. قالت دون تردد: "اعتمدت أم علي خلال فترة دِراستي الجامعية والآن بعد أن تزوجت وأنجبت أُصمم بعض الفساتين لبناتي لأنّي أجد في التصميم كامل الحرية في اللون والمقاس والتفاصيل التي لا أجدها دائمًا في السوق".
ساعاتٌ طويلة تتجاوز الاثنا عشر يوميًا تجلسها أم علي أمام ماكينتها، لتُبدع وتبتكِر وتُنتِج أجمل القطع المُتقنة سواء رسميَّة أو للأفراح أو حتى عباءات خليجية، وتُوضّح أنَّ أفضل ما يزيد شُهرَتها هو حُسن تعاملها مع الزبائن على اختلاف أعمارِهم وأذواقِهم وأوضاعِهم الماديّة.
وعلى الرغم من اتساع شهرة السيدة، تُفضّل أن تبقى مجهولة خلفَ الماكنة بعيداً عن وميض الكاميرا؛ لذا لا تَظهر في الصور وتُفضِل أن يتحدَّث عنها زبائنها دون إعلانات، وهي لا تعترف بفكرة الوصول للزبائن عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
بدوره، يؤكد المدرب في تصميم الأزياء محمد الغرابلي على أنَّ هذه الفترة تشهد إقبالاً شديدًا من قِبل الفتيات لتعلُم مِهنة التصميم والخِياطة، وذلك لاطلاعِهنَّ على عالم الأزياء من خلال الانترنت ورغبة كُلِ واحدة منهن في فتح مشروعِها الشَخصي وتصميم أزيائها بنفسها وُفقَ ذوقها وإمكانياتها.
وأشار الغرابلي إلى أنَّ مراكز تدريب الخياطة المُوزعة من شمال القطاع حتى جنوبه تُقدّر بـ 20 مركز، مبيّنًا أنّ الواحدة منّها تستقبل ما يُقارب 30 طالبة كل ثلاث شهور؛ مما يُؤكد حركة الإقبال على هذه المهنة، ولعلَّ ما يُشَجِع الفتيات على التعلّم، وفق قوله، هو أنَّ الالتحاق بدبلومات ودورات التدريب لا يَحتاج لشِهادات عِلّمية سابقة كشهادة التوجيهي مثلاً، بل تحتاج فقط للرغبة وشَغَف التَعلُّم".
إنَّ مِهنة الخياطة رُغم قِدَمها تبقى مهنةً غير عاديّة البتّة فهي تحتاج لحسٍ فنّي وإبداعي والكثير من الصبر، فيما تعتَاش عليها العديد من العائلات من خلال ماكينة صغيرة يشغُلّها رب/ـة الأسرة. وكانت الخِياطة في قطاع غزة من أكثر المهن اليدوية ازدهارًا حيثُ انتشرت العديد من الوُرش والمصانع التي تزيد عددها ألف، وتعمل على تشغيل نحو 15 إلى 20 ألف عامل تُصدّر منتجاتهم إلى شركاتِ الداخل الفلسطينيّ.
استمرَ الأمر هكذا حتى عام 2007 حيثُ بِدء الحصار الإسرائيلي للقطاع، واضِطرار هذه المصانع إلى التوقُف عن الإنتاج وإغلاق أبوابِها تَدريجيًا ليُصبِح عدد المصانع حاليًا نحو 160 مصنع، ويتحول الآلاف من العاملين عاطلينَ عن العمل حيثُ تَقلص عددهم إلى 5 آلاف عامل، فيما تستأنف حديثًا عدد من المصانع الغزية عملها بعد اثنيّ عشرَ عامًا من قلّة العمل بعد أن سُمِح لهم من جديد بالتصديّر إلى الداخل الفلسطينيّ.