حادثةٌ واحِدة قلبَت حياتي رأسًا على عقبْ، وتحوّل مَذاق النِعم العاديّة إلى أمنية في قلبي، أنا ناهض فروخ (42 عام)، كنتُ أعمل في توصيل الطلبات على دراجةٍ نارية، أو كما نُسميّها بالعاميّة سائق "ديلفري"، وفي لحظةٍ كالحلم أصبحتُ بلا عمل وفقدتُ حاستين من حواسي بلا أملٍ من عَودتهم، يا إلهي كيف حدثَ كُل ذلك؟
في يومٍ عاديّ كنتُ أقوم بتوصيل طلب إلى برجٍ سكني غرب مدينة غزة، في أغسطس 2022 تحديدًا، كانت تسود القطاع يومها موجةٌ من التصعيد والتوتر إثرَ عدوانٍ إسرائيلي، وبينما أصبحتُ على مَقرُبة من مدخلِ البرج وإذ بي أطيرُ كورقة دونَ شعورٍ منّي وأصحو بعد 6 ساعات من فقدانِ الوعي وقد خسرتُ بصري وسمعي والنطق في إصابةٍ واحدة!
خلال أيام، استعاد الأطباء بصري بجهودٍ حثيثة وصعوبةٍ بالغة، وعندما سألتهم زوجتي عن السمع والنطق، قالوا: "الأجهزة سليمة والأحبال الصوتية في حالةٍ جيدة، لكنَ المشكلة نفسية، لقد خسرهم نتيجة صدمة وعليه تكرار المحاولة لإصدار صوت واستعادة حواسه مرةً أخرى"، منذُ ذلك الحين أخرجُ كثيرًا في الشوارع ليلًا أنادي بكل ما فيّ من قوة علّي أسمع للهواء الذي يخرج من حنجرتي صدى ولكنّي أعود للبيت دون جدوى.
هو كابوس، لا بل أكثر بكثير، عجزٌ بالغ يتملكني حينما أنظرُ لزوجتي وأبنائي السبعة، مَن يُعيلهم؟ مَن يتولى أمورهم؟ اضطر ابني ترك دراسته الجامعية للعمل في أحد المنشآت بدخلٍ لا يتجاوز 20 شيكل في اليوم، يعني ما لا يُمكن أن يسدّ رمقنا. أتساءل كيف أصبحتُ في طرفةِ عين عاجزٌ إلى هذا الحدّ، مَن يتحمل مسؤولية هؤلاء الصغار، تربيتهم وتوجيههم وتكاليف مَعيشتهم ودراستهم؟!
أجتهدُ حثيثًا من أجلِ إيجاد طريقة لشرح ما في داخلي من تفاصيل أريد إخبارها لمَن حولي، طريقة لإخراج الكثير من الكلام والحديث الذي في يجول في رأسي ليسهل الحوار بيني وبين أبنائي، ولكسر الحواجز التي باتت موجودة بعد إصابتي، فما كان أمامي إلا اختيار الكتابة ومرافقة الورقة والقلم دائمًا، أصبحا رفيقاي لكن إلى متى؟ بالتأكيد يصعُب استخدامهم خارج البيت أو في الأماكن العامة.
أثقلت الإصابة كاهلي وأصبحت الاضطرابات المُختلفة تُرهقني وتُؤرقني وتودي بي لحالةٍ نفسية صعبة، أهرُبُ منها إلى النوم ساعاتٍ طويلة، أتناولُ المسكنات التي وصفها الأطباء بأنواعها العديدة لكنّ حتى هذه لم تعُد تُفي بالغرض مؤخرًا، أحاول أحيانًا أنّ أُخرجَ صوتًا من داخلي، يُخيلُ إليّ أنّه مسموع ثمَ سرعان ما أكتشف أنّه صدرَ خافتًا لا يسمعه مَن يلتصق بي؛ ومع كل محاولة فاشلة يزداد وضعي النفسي سوءًا ويَصعُب التعامل معي وتستمر معاناتي لقد خسرَ أطفالي أبًا سويًّا ومستقبلًا كان يُمكن أن يكون أفضل بكثير قبل هذه الحادثة بلا أدنى ذنب.