في مشهدٍ قد يتراءى للناظر أنّه يعود لعصورٍ قديمة، يحملُ عددٌ كبيرٌ من سكان قرية أم النصر زجاجات بلاستيكية فارغة وغالونات صفراء وزرقاء، يتراصون داخل عربة كارو متهالكة وتحت أشعة الشمس التي تتجاوز حرارتها 35 درجة، تقلهم العربة إلى خزان المياه العذبة المجانية في القرية والذي يبعد نصف ساعة عن مركز القرية.
نظرًا لظروفهم الاقتصادية المُترديّة وأوضاعهم التي لا تسمح لهم بشراء الماء العذب، يضطر الأهالي إلى التوجه للمحطة المجانية، بينما عربات تعبئة المياه العذبة تتجول بين بيوت الصفيح في القرية التي تُقدر مساحتها بـ 800 دونمًا، وتعود دون أن تَجِد زبونًا واحداً أو اثنين؛ وذلك لأنَّ تكلفة تعبئة 250 لترًا من المياه تصلُ إلى 15 شيكلًا أيّ ما يُعادل أجرة عامل ليوم كامل في القرية.
"اعتدنا على طعم الماء المالح" تقول سيدة تدعى "أم عدي"، وهي تقف أمام صنبور المياه وتُناوِل صغيرتها ذات العامين المُعلقة على خاصرتها ماءً للشرب في مطبخها الذي لا يكفي لتزاحم شخصين، تضيف: "نحصل على الماء من الصنابير، فليس باليد حيلة، إنّها خيارنا الوحيد للشُرب وإعداد الطعام، لكني أبقى خائفة من الأمراض".
قرية "أم النصر" هي واحدة من ثمانٍ وعشرين عشوائية مُوزعة على مختلف محافظات قطاع غزة، ويعيش فيها آلاف ممن تقطعت بهم السبل وعلقوا في مصيدة الفقر وانعدام فرص العمل، وقد أظهرت تقارير لمركز الإحصاء الفلسطيني أن معدلات البطالة والفقر في غزة وصلت إلى 89% وهي الأعلى في الأراضي الفلسطينية.
يحصل سكان هذه القرية الذين يُقدّر عددهم بـ 4437 نسمة، على المياه الصالحة للشرب بصعوبةٍ بالغة من خلال خزان سعته 1000 لتر يتم تعبئته أسبوعيًا، كانت قد تبرعت به إحدى الجمعيات الخيرية. تتابع أم عدي قولها: "أخبرونا قبل فترة أنهم سيحفرون بئراً فاحتفلنا لكن لم تكتمل فرحتنا لأن المياه خرجت منه مالحة". وبحسب ورقة حقائق أصدرها مركز الإعلام المجتمعي فإن العديد من آبار قطاع غزة تحتوي على تركيزات عالية من النترات (No)، (تتراوح من 50 إلى 100 ملجم/لتر، و لم تنخفض بمرور الوقت، وهي أعلى من الحدّ المسموح به حسب منظمة الصحة العالمية) 50 ملجم/لتر.
ويواجه سكان قطاع غزة أزمة مياه صالحة للشرب، حيث يفتقدها أكثر من 90% من السكان. وتعتبر المياه الجوفية المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه السكان لتلبية احتياجاتهم المائية للأغراض المختلفة سواء كانت الآدمية أو الزراعية أو الصناعية ومصدرها من الخزان الساحلي فقط الذي يقع على كامل مساحة القطاع.
رافقت "آخر قصة" رحلة الوصول للمياه للوقوف على تفاصيلها، وفي المشهد تقفز غزل (13 عام) برفقة أخيها عدي (8 أعوام)، على ظهر عربة الكارو، وسطَ عددٍ لا بأس به من السكان الآخرين المتوجهين لتعبئة المياه العذبة، ونظرًا لِصغر سن الأخوين _الذي يُعاني والدهم من مشاكل في عاموده الفقري_ غالبًا ما يعودان بأذيال الخيبة لأنهما لما يستطيعا الحصول على الماء نتيجة الطابور الطويل، فبعد وقت من الانتظار يكون الماء قد نفذ، وبهذا يكملون باقي الأسبوع مستخدمين مياه الصنبور.
تحمل غزل غالون مياه بسعة 10 لترات يكفي ليوم واحد لعائلة مكونة من 7 أفراد في حال استخدامه للشرب فقط، وتصل حصة الفرد من المياه العذبة إلى 26.8 لتراً فقط في اليوم في قطاع غزة، في حين أن الموصى به عالمياً أعلى من ذلك بكثير.
وقطع صمت الطريق الطويل صوت أحد الركاب "عجّل يا عمي بدنا نلحق دور ونعبي"، وعند سؤاله عن صعوبة الوصول للماء قال: "صرنا نحس حالنا في بلاد المجاعات واحنا بنتعب كل هاد عشان نحصّل شربة مية"، ويتنافى ما ذكره الرجل الخمسيني مع المادة (5) من قرار القانون الفلسطيني رقم (14) لسنة 2014 التي تنص على أنَّ لكل شخص الحق بالحصول على حاجته من مياه الشرب ذات الجودة المناسبة لاستعمالها وبأسعارٍ محددة.
إنَّ الوصول لـ "خزان" المياه الرئيسي لا يتم إلا يوم واحد أسبوعيًا تُحدده المؤسسة، وهذا يعني أن تقِف في طابور مُكون من مئات المحتاجين الذين يفتقدون لأحد أهم مقومات الحياة الرئيسية، وهي فرصة لا تعوض لسكان قرية أم النصر أن تحصل على المياه الصالحة للشرب بالمجان، فجميع السكان هنا يعتمدون على المياه الواصلة من الأنابيب التي قامت بتمديدها البلدية، وهي غالبا تتسم بالملوحة، حسب سكان المنطقة.
أمّا الطريق الآخر للوصول لمياه الشرب هو المحطة التابعة لأحد المؤسسات الأردنية التي تبعد حوالي ساعتين ذهابًا وإيابًا في ظل عدم توفر "ركوبة"؛ ما يعني أن الوصول لها أمرٌ غاية في الصعوبة لذا يقضي السكان أكثر من نصف الأسبوع بدون مياه صالحة للشرب.
وبحسب نائب رئيس سلطة المياه في غزة المهندس مازن البنا، فإن المياه في القطاع تتخذ مسارين في الوصول للمنازل، أولهما من خلال البلديات فكلِ بلدية مسؤولة عن مجموعة السكان الذين يقطنون داخل حدود نفوذها، وتكون المياه الواصلة هي للأغراض المنزلية، أما عن المسار الثاني فيكون من خلال القطاع الخاص وشركات التحلية التي توفر المياه الصالح للشرب مقابل مبلغ من المال مُتعارف عليه بين الجميع.
وأشار إلى استعدادهم لاستقبال أي شكاوى من المناطق المهمشة وبلدياتها، مبدياً اهتمامهم بالتعاون بما يصُب في مصلحة المواطن ويوفر له حقه في مياه الشرب.
إنَّ أزمة المياه التي يُعاني منها سكان قطاع غزة هي الأكثر خطورة؛ لِما لها من تداعيات على الصحة والزراعة، لكنها أزمة تَصطدم بغياب الحلول الجذرية لمشاكلٍ تتلخص في ضِيق المساحة الجغرافية ونمو السكاني المضطرد، مما أسهم في زيادة مستوى العجز المائي، رُغم الجهود المبذولة محليًا ودوليًا لتطويقها وإيجاد بدائل مناسبة.