عائدون من الهجرة إلى غزة يروون تجاربهم

هل "الاغتراب" طوق النجاة؟

عائدون من الهجرة إلى غزة يروون تجاربهم

هربًا من وحش البطالة لجأ العديد من الشباب إلى الهجرة من قطاع غزة-قدر عددهم 35 ألفاً عام 2018- إلى دول عربية وغربية، أملاً في الحصول على فرصة عمل.

"عمار" شاباً من أولئك الذين ضاقت بهم السبل ولجأ إلى تركيا للبحث عن العمل. تخرج عمار من قسم التعليم الأساسي قبل خمس سنوات من جامعة الأقصى بغزة، وانضم لطابور الخريجين الذين بلغت نسبتهم 45% وفقاً لآخر إحصاءات. وبعدما استنفد كافة خيارات الحصول على وظيفة حتى لو بأجر زهيد، قرر أن يشق طريق السفر.

وبعيداً عن مشقة السفر، يقول "عمار"، إن الغربة تعتبر شكل من أشكال الإذلال التي لابد أن يتعرض لها المغترب الفلسطيني في كثير من البلدان، لاسيما خلال عملية البحث عن عمل والتي تستمر أحياناً لأشهر، وفي نهاية المطاف تضطر أحيانا لأن تعمل في مهن بعيدة كل البعد عن تخصصك الجامعي، في سبيل توفير لقمة عيشك".

انتقل "عمار" من إسطنبول إلى اليونان بطريقة غير شرعية، وكان على شفا حفرة من الموت، على حد تعبيره، وقد نجا بأعجوبة حيث يشير إلى أن خفر السواحل اليونانية كانت قد عرضته ومن معه من المهاجرين إلى الضرب والتنكيل عند الوصول، وبعد أن اعتقلوا وتعرضوا للعنف لثلاثة أيام، جرى تسليمهم جميعاً إلى السلطات التركية. 

وتابع حديثه عن تلك التجربة قائلاً: "يمكنني القول إني لم اعترض في حياتي لأصعب من تلك الأيام التي تهربت فيها إلى اليونان، حيث واجهت الموت والألم بجميع أشكاله جرعة واحدة"، مشيراً إلى أنه هذه المحاولة لم تكلفه إلا المزيد من الأذى والضغط النفسي، وهو أمر اضطره بالعودة إلى غزة.

وأوضح أن أجور العمل في الغربة لا تختلف عن قيمة الأجور المتدنية في قطاع غزة، "وهي في جميع الأحوال لا تكفي لبناء مستقبل شاب في مٌقتبل عمره، بل تسد احتياجاته بشكل يومي فقط، لذلك فضلت العودة إلى غزة بعد مشوار من الذل والإهانة" كما قال.

وإذا كان البعض يعتقد أن مشقة الغربة تقتصر على عمار فحسب، فهناك العشرات من الشباب الذين كابدوا مشقته، ومنهم "أحمد" البالغ من العمر سبع وعشرون عاماً، والذي عمل في أحد مطاعم تركيا بأجر مُتدني لا يتجاوز الخمسة وعشرون شيكل، كان يظن أن الأحلام تزهر خارج حدود قطاع غزة، بعد أن باعت أمه مصاغها حتى تساعده في تكاليف السفر.

يقول أحمد وعلامات الندم تبدو واضحة على ملامح وجه: "بعد الوصول إلى تركيا والعمل ظننت أني سأجني أموالا كثيرة، لكني شعرت بالصدمة لتدني الأجور، وقد كنت مقيماً مع خمسة من الأشخاص في شقة سكنية صغيرة". وأضاف: "الغربة صعبة والبعد عن دفء العائلة واهتمامهم أمر مؤذي، عندما تصاب بالمرض لا تجد من يساعدك، أو يخفف عنك آلام المرض والغربة".

بعد سنة من الغربة عاد أحمد الذي لم يكمل مسيرته التعليمية، إلى قطاع غزة يحمل حزمة من الأعباء النفسية والجسدي، وبعد فترة وجيزة غادر إلى دولة الإمارات، ثم انتقل منها إلى تركيا مجدداً، وهناك عبر إلى الغابات مهاجرًا إلى اليونان مشيًا علي الأقدام، وعندما ألقى القبض عليه من قبل الأمن اليوناني قاموا بتعذيبه مرات عديدة لمدة ثلاث أيام وكان يشعر في لحظات معينة أنه بات قريبا جدا من الموت، حسبما قال. 

وبعد إطلاق سراحه عاد مشيًا على الأقدام، وعلامات التعذيب تبدو بارزة على جسده المُنهك، واحتباس الدماء كان واضحاً على وجهه نتيجة الكدمات. عند وصوله إلى اسنبطول هاتف أهله وطلب منهم مساعدته من أجل العودة إلى مسقط رأسه.

مُنذ تلك اللحظة قرار أحمد أن يبدأ حياته من جديد في فوى، فتزوج وأنجب طفلة وهو الآن يعمل نادلاً في أحد مطاعم القطاع المُطلة على شاطئ البحر.

وإن كان "أحمد" قد عاد إلى القطاع من أجل تكوين عائلة، فالشاب علي عويضة قد غادر قطاع غزة بحثاً عن فرصة عمل مناسبة، تمكنه من الزواج وبناء حياة جديدة، غير أن أحلامه منيت بالفشل.

يعمل عويضة الذي يقطن في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، في إحدى المؤسسات الأكاديمية المحلية، براتب يكاد يسد احتياجاته الضرورية. وتخرج مُنذ عشر سنوات بدرجة امتياز، لكنه وبسبب تدني أجره الشهري، سافر لعدة دول أوروبية، بحثا عن فرص حياة أكثر جدوى، لكنه في كل مرة كان يصطدم في تحدِ جديد.

وقال عويضة: "للأسف قيمة الراتب لا تغطي الاحتياجات سوى لمنتصف الشهر، فيما أن ساعات العمل طويلة وممتدة وهو أمر يعجزني عن البحث عن فرصة عمل ثانية".

وأضاف: " لم أستطع تكوين حياتي المستقبلية، الشباب في عمري تزوجوا وأقاموا بيوتاً تضج بأصوات الأطفال، فيما أنا لم أتمكن إلى الآن من تحقيق حلمي في استكمال بناء المسكن".

عويضة، ليس الوحيد الذي يعمل بأجر مُتدني في قطاع غزة، هناك أكثر250 ألف عامل لا يتلقون الحد الأدنى للأجور حسب إحصائيات مركز الإحصاء الفلسطيني، رغم أن القانون الفلسطيني رقم 7 لسنة 2000، وتحديداً في المادة (89) نص، على إلزامية تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي تحدده لجنة الأجور، ومن يخالف يعرض نفسه للعقوبة.

ويحاول بعض الخريجين العمل في مهن لا تمت لتخصصاتهم الجامعية بصلة، في سبيل الحصول على أجور تمكنهم من إسناد أسرهم، لاسيما أن نحو 50% من الأسر تعتمد على المساعدات الإنسانية.

يشير مدير دائرة التوعية والإرشاد بوزارة العمل في قطاع غزة صلاح صهيون، إلى أن عدد العاطلين عن العمل في القطاع قد بلغ 320 ألف عامل وخريج.

وبين أن وزارته تعمل على تشغيلهم من خلال توفير فرص عمل، حيث تمكنت من تشغيل 5 آلاف عامل خلال العام الحالي، فيما أنه خلال العام الماضي جرى توفير 17 ألف فرصة عمل.

وقال صهيون في حديثه لـ"آخر قصة"، "تسعى الوزارة جاهدة إلى توفير العديد من الفرص لكافة العاطلين عن العمل، ولكن أعداد الخريجين في ازدياد، وهم بحاجة إلى المزيد من مشاريع التمويل، من أجل توفير فرص عمل كافية".