في السادس من أغسطس الحالي، استنجدت السيدة ردينة الغرة (45 عاماً) بأبن شقيقها من أجل الهروب من القذائف. ردينة تعاني إعاقة حركية وتعتمد اعتمادا كليا على كرسي متحرك، غير أنه خلال عمليات القصف الإسرائيلي لا تستطيع استخدامه وحدها.
استطاعت السيدة ردينة القاطنة بالقرب من الحدود الشرقية لمدينة غزة، من الهروب من المسكن الذي تحيطه أصوات الانفجارات، ووجدت نفسها في شارع متهالك تحت ظلال القذائف.
عاطفة السيدة قادتها للطلب من أبن شقيقها أن يتركها وينجو بنفسه، غير أنه رفض، كما قالت. وتمكنا فعلا من النجاة والاحتماء بمنزل شقيقها الأخر الذي يبعد اثني كيلو متر تقريبا.
وهذه المرة الخامسة التي تضطر فيها هذه السيدة التي تعاني من إعاقة منذ الطفولة، للهروب من مسكنها المتاخم للحدود بين غزة والأراضي المحتلة عام 1948، تحت وطأة القصف الإسرائيلي المتكرر للقطاع.
وشن الاحتلال عملية عسكرية على قطاع غزة استمرت ثلاثة أيام (5-8 أغسطس) طالت كافة المناطق وأدت إلى سقوط 44 شهيداً بينهم ستة أطفال. فيما تركت أثارا نفسية حادة لدى السكان البالغ عددهم أكثر من اثني مليون نسمة، 2.5% منهم من ذوي الإعاقة الذين يعانون الأمرين خلال الحروب بسبب صعوبة الحركة ومخاطرها.
وتخشى ردينة تجدد الاشتباكات التي توقفت بفعل جهود الوساطة المصرية بين المقاومة الفلسطينية واسرائيل، وتقول إن إقامتها المؤقتة في منزل شقيقها الأخر، لا تكفل لها الشعور بالأمان، "فكل الأماكن في غزة عرضة للاستهداف"، كما قالت.
وعايش السكان القطانين على مساحة (365 كلم2) حربًا عنيفة الصيف الماضي استمرت 11 يومًا متواصلاً، وهي ليست المرة الأولى التي يعيش فيها السكان حروبًا وتصعيدات عسكرية إسرائيلية خلال الـ 15 عامًا الأخيرة، وفي كل مرة يتعرضون للقتل والدمار والتشريد، وبخاصة الأشخاص ذوي الإعاقة.
لم تتوقف معاناة السيدة ردينة عند صعوبة التنقل فقط، فبسبب وضعها الصحي الخاص، تضطر لاستخدام فرشة طبية بمواصفات صحية تتناسب وحالتها الجسدية، كما تحتاج إلى استخدام حمام بمواصفات مواءمة خاصة، ولا يتوفر كل ذلك إلا في منزلها الحدودي، الأمر الذي يضاعف من معاناتها في قضاء الحاجة والنوم خلال فترات النزوح.
ردينة واحدة من ذوي الإعاقة في القطاع -البالغ عددهم حتى ديسمبر 2021، قرابة 54 ألف من الجنسين ومن مختلف الإعاقات، بحسب النظام المحوسب للأشخاص ذوي الإعاقة التابع لوزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية- وليست الوحيدة التي تواجه الصعوبات والمخاطر تحت الحرب.
الشاب محمود نعيم (19 عامًا)، يعاني من شلل نصفي منذ قرابة العام، حيث أصيب بشظية صاروخ في استهداف قريب من منزلهم خلال عدوان صيف 2021 على قطاع غزة، وهو ما أجبره على استخدام الكرسي المتحرك.
خضع نعيم للعديد من العمليات نتيجة الإصابة التي تسببت بتهتكات في البطن والظهر، لكنها لم تعيد له حياته السابقة، يقول "العام الأخير كان صعب نفسيًا وجسديًا وصحيًا، لكن الحالة تحت العدوان الأخير كانت تجربة مختلفة وأصعب من السنوات السابقة عليّ، نتيجة عدم قدرتي على التحرك وحدي".
يعيش الشاب في بناية سكنية لعائلة ممتدة، يقيم في الطابق الثالث منها، مما يضطره الصعود والهبوط على الدرج بمساعدة من أشقائه وأبناء عمه، بعد عودتهم من أعمالهم خلال وقت الهدنة الذي لم يصمد أكثر من عام واحد، لكن خلال العدوان الأخير، شعر بإذى نفسي كبير نظراً لاضطراره الانتقال عدة مرات صعوداً وهبوطاً كلما استشعر بالخوف.
يشعر الشاب بالأذى ويجلد نفسه كثيراً نتيجة إصابة جعلته طريح الفراش، ليصبح بحاجة إلى مواءمة خاصة في كافة تفاصيل المسكن، بدءاً من حمام ومطبخ وغرفة النوم، وحتى درج البناية، وقد جعلته ظروف الحرب الأخيرة منطوياً على نفسه، ويرغب في الانعزال.
ويشكل هذا الأذى الذي لحق بالأشخاص ذوي الإعاقة نتيجة العدوان المتكرر، انتهاكاً لما نصت عليه المواثق الدولية الداعمة لهذه الفئة.
ووفقاً للمادة (11) من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، "تتعهد الدول الأطراف وفقاً لمسؤولياتها الواردة في القانون الدولي، بما فيها القانون الإنساني الدولي، وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان، باتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النـزاع المسلح والطوارئ الإنسانية والكوارث الطبيعية".
ربما عدم توفر الملاجئ، أو الأماكن الآمنة خلال العدوان على قطاع غزة، هو ما أجبر ذوي الإعاقة وأسرهم على خوض تجارب خطرة، الأمر الذي ترك أثرًا نفسيًا وصحيًا سلبيًا كبيراً عليهم.
الشاب سامي الريفي (26 عامًا) متزوج ولديه طفلة، يعاني من شلل رباعي منذ ثلاثة أعوام، بعدما أصيب بطلق ناري في رقبته ليصبح أحد الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، ولا يمكنه التنقل بدون كرسي متحرك.
يسكن الريفي في منزل بحي التفاح شرق غزة، ةيقيم برفقة أسرته في الطابق العلوي من المسكن، وعادة ما كان يعتمد على أشقائه في عملية الصعود والهبوط من الشقة، لكن بسبب ظروف الحرب، قرر والده منذ اللحظات الأولى للعدوان النزول إلى الطابق الأرضي والبقاء في غرفة خلفية يعتقد أنها آمنة.
يقول الوالد بعدما رفض الشاب الحديث معنا "ابني تأثر كثيرًا خلال العدوان الأخير، شعر بثقله علينا كأسرته، ولم يعد يفضل الحديث مع أحد أو حتى النزول من شقته، هو دائم الجلوس وحيدًا، حتى أنه أحيانا لا يستطيع اللعب مع طفلته الوحيدة"، ويضيف "ليس من السهل على الإنسان أن يعتمد على الآخرين في قضاء احتياجاته حتى لو كانوا أقرب المقربين له".
وكانت قد أعدت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، في مايو 2021، ورقة حقائق حول "آثار العدوان الحربي الإسرائيلي على الأشخاص ذوي الإعاقة في غزة"، وخرجت بجملة من التوصيات، من أبرزها ضرورة وجود خريطة لكافة أماكن تواجد ذوي الإعاقة في القطاع، تُحَدَّدُ فيها أماكن السكن ووسائل الاتصال بهم والأماكن المناسبة لتجمعهم خلال الحروب والأزمات، وكذلك ضرورة تخصيص أماكن مواءمة لذوي الإعاقة حتى لا تتكرر تلك التحديات في المستقبل.
وطالبت بالضغط لاشتراط مواءمة المنازل والشوارع والمدارس التي سيتم إعمارها وبناؤها في المستقبل، وضرورة إعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات العاملة في مجال الإعاقة والجهات الدولية التي تعمل في أوقات الحروب والوزارات الحكومية المعنية لتحديد مهام كل طرف حتى يتم تلبية احتياجات الأشخاص ذوي العلاقة وعدم انتهاك حقوقهم.