لم يكن صيفًا عاديًا، في هذا اليوم بالذات -السادس من أغسطس- كانت حرارة الطقس مجتمعة مع لهيب الحرب، وقد أجبرتا سكان البيوت الضيقة المتلاصقة في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، على السماح لأطفالهم بالهروب إلى برودة الأزقة النسبية؛ فلربما يُلهيهم اللعب مع أقرانهم عن الفزع المصاحب مع كل قصف كانت تعيشه مناطق القطاع كافة.
"بكفي لعب يلا ادخلوا جوا"، كان هذا نداء الأم الأخير لأطفالها، خوفًا عليهم من القصف الذي يقترب صداه شيئاً فشيئاً، لكن "أحمد" ابن الصف السادس، وأخوه مؤمن ذو الخمسة أعوام نجحا في إقناع الأم، أنهما سيذهبان إلى البقالة لشراء العصير ويعودان بأسرع وقت ممكن.
ركض الطفلان، ولبس الأب محمد النيرب حذاءه سريعًا لمرافقتهم المشوار ذاته، ومن ثم اللحاق بركب المصلين لأداء صلاة العشاء في المسجد المجاور، لكنّ الصاروخ الذي أطلقه الطيران الإسرائيلي كان أسرع منهم جميعا.
أحمد ومؤمن النيرب، الأخوان الأوسطان بين أختين أسيل 14عامًأ، وسالي 3 أعوام، هذه العائلة الصغيرة التي تعيش بدعاء الأم المتلهفة، وعرق الأب العامل في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكلهما أمل أن واقع أولادهم سيكون أجمل مستقبلاً، وأكبر همومهم هو توفير طلبات أبنائهم البريئة من "ملابس جديدة، وأكلات لذيذة".
"كان مؤمن يعتبر أخيه أحمد قدوة فهو يكبره بأربع سنوات، فقد اتفق الاثنان على دراسة الطب في المرحلة الجامعية، حتى يساهموا في علاج المرضى والموجوعين" يتحدث والد الطفلين بصوته المبحوح إثر الحدث الجلل الذي وقع بطفليه الحالمين، دون أن يمهلهما الصاروخ وقتًا لتحقيق أمانيهم.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عصر يوم الخامس من أغسطس، أعلنت محطة توليد الكهرباء عن تقليص عدد ساعات الوصل، الشيء الذي أغرق القطاع في ظلمة إضافية، فكان حال مخيم جباليا كحال باقي محافظات القطاع؛ حيث اندفع أطفال المخيم للهروب من العتمة والحر والقصف.
"كنت واقفًا أمام الباب أراقب سيرهم إلى البقالة حين تزلزلت الأرض واختنقنا بغبار الصواريخ المتفجرة، حاولت أن أستعيد الرؤية بأسرع وقت، لأرى مؤمن ممداً على مقربة متر واحد مني والدم يتدفق من رقبته، وأحمد على بعد ثلاثة أمتار"، يستعيد الأب التفاصيل وهو يلتف برأسه يمنة ويسرة وكأنه يحاول إزاحة المشهد الدامي من الذاكرة.
ركض الأب باتجاه أولاده، وحمل ابنه الصغير مؤمن بيديه المنتفضتين، وهو يصرخ "إسعاف.. اطلبوا الإسعاف"، لكن لا إسعاف سيكون بسرعة خفقات قلب أب مرتعب على مصير أولاده، حمل أحد الأقارب جسد أحمد، وركضا باتجاه تاكسي أجرة كان يمر بالجوار، هذا التاكسي الذي حُمِّل فيه "أكثر من خمسة شهداء"، على حد قول الأب.
كان الأب يدرك أنه لا علامة تدل على الحياة في أجساد أولاده، لكنّ القلب الضعيف بقي متشبثًا بشيء من الأمل، هذا الأمل الذي انتهى عند أبواب ثلاجة الموتى داخل المشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة.
رحل أحمد ومؤمن النيرب عن الحياة برفقة ثلاث شهداء آخرين خلال قصف طائرات الاحتلال مخيم جباليا شمالي قطاع غزة من دون سابق إنذار، لتنطلق الجنازة من المخيم رافعة جثامين الشهداء الذين تبللوا بدموع الأمهات وصرخاتهن على فراق فلذات أكبادهن.
مازال الأبوان لا يستوعبان ماهية الحدث؛ لتتشبث الأم الباكية بأجساد أولادها الملتفين بالأبيض، وهي لا تستوعب كيف يغادر أبناؤها اليوم وقد ناموا بين أحضانها بالأمس، كيف ستستعين على مرّ الأيام دون سماع أصواتهم ومداعباتهم، ومراقبتهم بشغف لحجم بطنها الذي يكبر يومًا بعد يومًا استعدادًا لقدوم أختهم القادمة بعد شهرين من الآن؟
"ماذا أرادوا من أولادي كي يقتلوهم قبل أن نذهب لشراء الأحذية البنية الجديدة التي طلبوها قبل نشوب العدوان" هذا التساؤل الوحيد الذي لم يستوعبه الأب حتى هذه اللحظة، “كيف ذهب أولادي بغمضة عين؟
واستشهد خلال العدوان على قطاع غزة 44 شهيداً بينهم 15 طفلاً و4 سيدات، بالإضافة إلى إصابة 311 آخرين.
ويخالف استهداف الأطفال خلال الحرب، ما نصت عليه اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة لعام ١٩٢٤، والتي نصت "تتعهد الدول الأطراف بأن تضمن للطفل الحماية والرعاية اللازمتين وأن تحمي الدولة والمؤسسات الخاصة بالطفل، من أي شكل من أشكال العنف والتميز".