البسطات.. دخل الفقراء المهدد

البسطات.. دخل الفقراء المهدد

غالباً ما ترتبط "البسطات" ارتباطا وثيقا بمعدل البطالة والفقر في أي بلد، فما بالك بالأراضي الفلسطينية وبخاصة قطاع غزة الذي يعاني تضخماً في نسبتي البطالة والفقر على حدٍ سواء!

قس على ذلك واقع البسطات التي تمتد كسلسلة على طول الشوارع الرئيسية في مدينة غزة، بصفتها أكبر محافظات القطاع وأكثرهن كثافة، حيث لا يوجد رقم دقيق يوثق حجم هذه البسطات، غير أن هذا الكم لا ينفي ملاحقتها من قبل الأجهزة الحكومية المختلفة.

وقبل الدخول في تفاصيل المعاناة اليومية لباعة البسطات، نتيجة الملاحقة، علينا عزيزي القارئ أن نفرق بين نوعان من هؤلاء الباعة: فالنوع الأول هم الفقراء محدودي الدخل أو حتى معدميه ممن لا يجد قوت يومه، ويضطره ذلك لامتلاك بسطه في أحد شوارع المدينة بحثاً عن مصدر رزق، أما النوع الثاني فهم التجار وأصحاب المحال التجارية التي إما تملك بسطة وتديرها بواسطة عامل، أو تستغل الرصيف المحاذي لأبوابها لعرض بضائعهم.

في الحالتين، تعد البسطات واحدة من أشكال اقتصاد الظل، الذي يعرفه خبراء الاقتصاد بأنه يشمل جميع الأعمال والأنشطة الاقتصادية التي يقوم بها الأفراد أو المنشآت ويحصلون من خلالها على مكاسب مادية دون أن تخضع للنظام الضريبي.

يملك الباعة المتجولون في مدينة غزة التي يبلغ مساحتها 45 كم²، كلمة سر، اعتادوا على تداولها (بلدية) كلما مرت شاحنة المصادرة الحكومية، وبمجرد دخلوها يباشر الباعة في الهروب من قبضة مراقبي البلدية وشرطتها.

البائع الشاب عبد الله الحصري، لم يستطع الهرب ووقع في الفخ، وبدأ مراقبوا البلدية بمصادرة البسطة الصغيرة التي يديرها في شارع الجامعات وسط المدينة. وقال: "ناشدتهم ألا يصادروا البضاعة لكن دون جدوى".

الحصري الذي كان يدير متجرا لبيع العطور والبخور، وتعرض للخسارة بسبب الوضع الاقتصادي المتردي اضطر لإغلاقه. توقع الشاب أن امتلاكه بسطة صغيرة متجولة يمكن أن يغطي احتياجات أسرته، لكن الأمر لم يكن وفق توقعاته.

العديد من المشكلات واجهها الحصري عندما قرر وضع بسطته على الرصيف المؤدي إلى منطقة الجامعة وسط مدينة غزة، يقول "اخترت المكان كونه قريب من طلبة الجامعات، وهي منطقة مكتظة بالمارة في النهار، على أمل أن يكون البيع وفير".

بعد أيام قليلة، فوجئ الحصري، وهو رب أسرة مكونة من 3 أفراد، بشاحنة البلدية تصادر بضاعته، رغم أنها بالكاد تسعفه في جلب قوت عائلته اليومي، بدعوى أنه يستحوذ على جزء من الطريق العام المخصص للمارة.

لاحقاً فكر الشاب الحصري في تغير مكان عمله، ولجأ إلى سوق الرمال الذي لا يبعد سوى اثني كيلو متر عن مكان عمله الأول وهو يشكل سوقا تجاريا كبيرا يقبع وسط أكثر أحياء القطاع رفاهية واستثماراً، غير أنه جرت ملاحقته مجددا.

أثناء الحديث ينظر البائع الحصري، يميناً ويساراً، إذ يبدو خائفاً من الوقوع في الفخ، وقال إن تلك البسطة التي تقدر تكلفة انشائها بـ200 شيكل (70 دولارا)، تعيل أفراد عائلته، حيث أنّ طفلته الصغيرة تعاني من ضمور عقلي، وهي بحاجة إلى علاجات مكلفة، الأمر الذي فرض عليه أعباء إضافية.

الهاجس الذي ينتاب الحصري في كل لحظة خوفًا من المصادرة مرة أخرى، انتقل للعشرات من أقرانه. طلال كاتب، شاب في منتصف عقده الثاني، يقف خلف عربة مهترئة إلى حد كبير، حيث يبيع المشروبات الساخنة للمارة، وقال "هذه العربة تمت مصادرتها عدة مرات من البلدية، مما تسبب بإتلاف إطاراتها الصغيرة، وقد اضطررت لتثبيتها بحجر أسمنتي على طرف الرصيف".

الشاب كاتب، عبرّ عن رفضه لما يتعرض له من موظفي البلدية، قائلاً "أنا مش متسول، ولو توفرت لدي طريقة بديلة لكسب الرزق لما لجأت للعمل على البسطة"، مضيفًا أن البيع على العربة، بالكاد يكفي لتأمين الحد الأدنى من مصروف أسرته اليومي، في الوقت الذي تفرض عليه البلدية غرامات باهظة تفوق سعر بسطته المقدر تكلفتها بـ 300 شيكل (85 دولارا)، حسب قوله.

واستناداً إلى معطيات وأرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ معدل البطالة في قطاع غزة 46.9% وفق التقرير السنوي للعام 2021، بواقع 41.9% بين الذكور مقابل 65.0% بين الإناث.

وفي شرحه لدواعي تشكيل هذه الظاهرة، أوضح الخبير الاقتصادي الدكتور معين رجب، أن البيع على الأرصفة والطرقات من أحد أنواع العمل الحر غير المنظم أو المرتبط بجهة معينة، ويعتمد على رأس مال معقول، مشيرًا إلى أنه مهمة شاقة يلجأ لها العديد من الشباب في قطاع غزة نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية وعدم توافر فرص عمل.

ويرى رجب أنّ من حق الشباب البحث عن أي وسيلة كسب شريفة يستطيعون من خلالها تغطية ولو جزء بسيط من احتياجاتهم؛ بدلاً من انتظار الوظيفة أو التسول من الآخرين، ملفتًا إلى أنّ أي عملية للكسب مهما كانت بسيطة يؤثر على الناتج المحلي الإجمالي، وذلك التأثير بحجم العمل، وهو بذات الوقت يعمل على بناء علاقات من الممكن أن تفتح له الأفق لبداية مشروع جديد، فكثير من الباعة تحولوا من أصحاب بسطات إلى مُلاك متاجر.

ومن وسط المدينة إلى غربها- حيث البحر والكورنيش الذي يتدفق إليه الناس بشكل كبير بصفته الملجأ الوحيد للهروب من حر الصيف في ظل الانقطاع المستمر للكهرباء- تبدو المعاناة واحدة.   

غالبية الباعة المتجولين وأصحاب الأكشاك هناك، لم يفضلوا الحديث عن مشكلة الملاحقة اليومية، أحدهم فقط قبل الإدلاء بإفادته مشترطاً عدم ذكر اسمه، مكتفياً بذكر أنه في العشرينات من عمره.

قال الشاب العشريني، الذي يدير عربة لبيع المأكولات الشعبية، إنه تخرج من إحدى الجامعات ولم يجد فرصة للعمل، لذا قرر الاعتماد على ممارسة مهنة والده المتعلقة ببيع المأكولات الشعبية، ولكن عبر بسطة متنقلة، سعياً وراء إعالة أسرته.

الشاب الذي صبغت الشمس جبينه نتيجة العمل منذ ساعات الصباح الأولى، تجاوز فكرة البحث عن وظيفة، وقال بنفور إنه أضاع الكثير من وقته عندما التحق بالجامعة، "لأن الشهادات الجامعية لا تصلح للعمل في هذه البلد".  

وأشار إلى أنه لم يفلح في تأمين دخل مادي حتى عبر العربة المتجولة، حيث أن البلدية لاحقته مطالبة إياه بنقل بسطته من الكورنيش إلى الشاطئ، وتعجب قائلاً: "من سيتحمل عناء النزول للشاطئ لشراء سندوش فلافل!".

رفض الشاب الالتزام بتعليمات البلدية، وعليه فعربته مهددة بالمصادرة، وقال "قد يصادرونها في أي وقد وحينها سأضطر لدفع غرامة مالية تتجاوز الـ 500 شيكل حتى أستطيع تحرير عربتي، وبالمناسبة قيمة الغرامة توازي تكلفة إنشاء عربة جديدة"، كما قال.

وبحسب المادة 15 من قانون الهيئات المحلية الفلسطيني، تمتد سلطات المجلس البلدي إلى مراقبة وتنظيم الباعة المتجولين والحمالين والبسطات والمظلات وتنظيم الحرف والصناعات وتعيين أماكن خاصة لكل صنف منها، إضافة إلى مراقبة المحلات والأعمال المقلقة للراحة أو المضرة بالصحة العامة.

ووفقاً للبند 27 في الفقرة (ب) من المادة 15، يحق للمجلس وبموافقة وزير الحكم المحلي أن يضع أنظمة لتمكينه من القيام بأية وظيفة من الوظائف أو ممارسة أية صلاحية من الصلاحيات المذكورة في هذا القانون وأن يضمن تلك الأنظمة أية ضرائب أو رسوم أو عوائد أو غرامات أو نفقات أو مخالفات.

في معرض ردها على شكاوى باعة البسطات على الملاحقة اليومية، قالت بلدية غزة، على لسان مسؤول العلاقات العامة حسين عودة، نحن لا نصادر البسطات إلا بعد إخطار البائع المتجول بترك الرصيف للمرة الثالثة دون استجابة، والذي يعتبر المكان الآمن لتنقل المواطنين مشياً على الأقدام، مشيراً أنه غالباً ما يتم التعامل بروح القانون والتغاضي مع بعض الباعة الذين لا يشكلون أزمة.

ويلفت عودة أن التعديات على الأرصفة يتم متابعتها بشكل يومي، مع إرجاع البضائع المصادرة عند توقيع صاحبها على تعهد بعدم العودة للتمركز في ذات المكان ودفع غرامة تتراوح ما بين 20 إلى 50 شيكل بحد أقصى، وحسب كمية البضائع المحجوزة.

ويشير إلى أنّ البلدية تقوم بعملها المنصوص عليه وفق القانون، بهدف تنظيم الطرقات وإدارة الحركة المرورية للحفاظ على حياة المواطنين.

أما عن المطاعم والمحال التجارية بمختلف أنواعها، والمنتشرة في الأسواق والشوارع الحيوية، والتي تستحوذ على جزء أو كامل الرصيف، يوضح مسؤول العلاقات العامة والإعلام في بلدية غزة، قائلاً "تلك المحلات تم إخطارها بإزالة التعديات، وبالفعل هناك العديد من التجار التزموا بالأمر، بينما يتم تحرير مخالفات شهرية تقدر بـ 200 شيكل أو أكثر حسب طبيعة التعدي، ويتم متابعة الأمر في المحاكم".