تستعد الطفلة سارة المتربيعي بعد ثلاثة أشهر من الآن تقريباً، لمرافقة والدتها إلى السوق لشراء الزي المدرسي، حيث ينتظرها عام دراسي جديد ستتأهل خلاله إلى الصف الأول الابتدائي، لكنها لن تذهب مثل أقرانها مشياً على الأقدام.
في الغالب، سيصحبها والديها على كرسيها المتحرك الصغير، للاطمئنان على سلامتها والتأكد من ملاءمة ظروف المدرسة والفصل لها، كما لن ترتدي حقيبتها المدرسية على ظهرها، والتي غالبًا سيكون لونها زهريًا كما جرت العادة عند الفتيات من عمرها.
الطفلة سارة لم تكمل بعد ربيعها السادس، أصيبت في مايو من العام 2021 خلال العدوان على غزة، إصابةً مباشرة في العامود الفقري خلال قصف البناية التي تقطنها أسرتها، الأمر الذي تسبب لها بإعاقة حركية.
قابلنا الطفلة التي كان قد أطلق والدها مناشدة لعلاجها قبل نحو عام، للتعرف على ظروفها الآن وكيف تقضي وقاتها وبخاصة مع دخول الإجازة الصيفية، غير أنها كانت تلتزم الصمت طيلة الوقت.
حاولنا اختراق حالة الصمت، ومنحناها فرصة للتعبير عن نفسها؛ تقول: "خطّي جميل وأنا بعرف أكتب"، شرعت في الكتابة فور تلقفها للورقة والقلم، وفجأة أصيبت بالفزع حين نسيت كيفية كتابة حرف الميم، حيث كانت تنوي كتابة كلمة "ماما".
لكنها سرعان ما استرجعت ذاكرتها، وكتبت بشكل متتابع "ماما، بابا، سارة، عمر، عبود"، وهم أفراد عائلتها الذين يُحيطونها باستمرار.
تستطيع سارة الكتابة بخط مفهوم، وكانت تحب الذهاب يوميًا إلى الروضة للقاء صديقاتها واللعب معهنّ، لذا تتوقع عائلتها التي حجزت لها مقعدًا في إحدى المدارس الحكومية، أنها ستتفاعل بشكل جيد مع هذه المرحلة الجديدة والأصدقاء الجدد، غير أنها تقول إن طفلتهم لا تزال واقعة تحت تأثير الصدمة.
وقد أبدى والدها زاهر المتربيعي (37 عامًا)، قلقه الشديد من المرحلة الدراسية القادمة؛ وقال لـ آخر قصة "لقد سجلتها في المدرسة حتى نضمن لها مقعدا دراسياً، لكنني مازلت أخشى القادم ولا أعلم إن كانت طفلتي ستنسجم في المدرسة أم أننا سنلجأ لنقلها لمدرسة خاصة".
ولفت الأب إلى أنه تمكن من تسجيلها في واحدة من مدارس مدينة غزة التي تتوفر فيها ظروف الموائمة لذوي الاعاقة الحركية، إضافة إلى أنها تشمل وحدة دعم تربوي ونفسي.
تجلس الطفلة على الكنبة مستمعة لحديثنا مع والديها، فيما تحمل هي جهازها اللوحي، متصفحة صور حفل تخرجها من الروضة، والذي أُقيم منذ وقت قريب، وتشير بأصابعها الصغيرة، لتقول فجأة "هؤلاء صديقاتي لارا وسارة"، وقبل أن نستفسر منها، تؤكد لنا بينما تهز رأسها "نعم احنا 3 سارة بالفصل".
ربما رغبت المشاركة في الحديث والتعبير عن نفسها، خاصة حول دراستها في الروضة خلال الفترة السابقة، سألناها "متى التحقتِ بالروضة"، أجابت بينما اتسعت عينيها اللوزيتين "من زمان، من لما كنت أمشي على رجليا".
كأن الزمن توقف عند تلك الحادثة؛ حين اخترق صاروخ إسرائيلي سقف منزلهم، فأُصيبت وفقدت القدرة على الحركة، وانتشرت الشظايا في أنحاء جسدها الصغير، فيما تعرضت الدتها أيضًا للإصابة في منطقتي الصدر والكتف.
ووفق تقرير أصدره مركز الميزان لحقوق الانسان؛ عقب انتهاء العدوان الذي استمر طيلة 11 يومًا متواصلاً، فقد بلغ عدد الجرحى الأطفال خلال تلك الفترة (630) طفلاً، بينما بلغ عدد الشهداء (60) طفلاً.
كثيرون تعاطفوا مع الطفلة سارة، وتناقلوا قصتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي مستخدمين وسم "سارة لازم تتعالج". وعن هذا التعاطف قال والدها: "تلقيت اتصالات كثيرة من داخل غزة وخارجها، شخصيات وجهات رسمية وأفراد، الجميع تضامن معنا.. وشعرت وقتها أن سارة هي أهم طفل في العالم".
على إثر هذا الصدى الذي حققته قصتها، تمكنت الأم من اصطحاب طفلتها إلى الأردن من أجل تلقي العلاج، حيث تشبثت عائلتها ببريق الأمل الذي بدا لهم حين حصلوا على هذه الفرصة، خضعت خلالها لمجموعة عمليات جراحية؛ كان من بينها وقف تدفق السائل النخاعي، وتثبيت العمود الفقري، اضافة إلى عمليات تجميلية في أنحاء متفرقة من جسدها.
رافقتها في رحلتها الصعبة والدتها لينا (27 عامًا)، وقد كانت في ذلك الوقت تحمل في أحشائها طفلاً، وقالت مستذكرة رحلة العلاج "كنت أراقب عن كثب تمارين العلاج الطبيعي الذي قدمته المستشفى لطفلتي، كي أتمكن من متابعة العلاج بنفسي بعد عودتنا إلى غزة".
بعد عدة أشهر من العلاج في الأردن؛ عادت الطفلة على كرسي متحرك وليس على قدميها كما كانت تتمنى أسرتها ومحبيها. قالت الأم وهي تقاوم دموعها: "قال الأطباء إنه لا يوجد أمل في تحسنها، ستبقى هكذا مدى حياتها، وحتى هنا في غزة، قصدنا أكثر من مستشفى بهدف تلقي طفلتي للعلاج الطبيعي، لكنهم لم يستمروا في العمل معها بشكل دائم، ويصدمونا دائما بأنه لا يوجد استجابة!".
بينما يقول الأب متعجبًا "بالتأكيد يوجد أمل، لقد أوصى الأطباء في الأردن بضرورة هذه الجلسات خوفًا من تصلب قدميها". بينما سارة غالبًا تقول لوالدتها "نفسي أرجع أمشي يا ماما مشان ألعب مع عمر (شقيقها الأكبر) متل الأول".
الأم لينا والتي يبدو أن طفلتها المصابة تستحوذ على اهتمامها الأكبر مقارنة بباقي أبناءها، قالت إن "سارة" كثيرًا ما تُصاب بالاكتئاب خصوصاً إذا كانت على مقربة من أطفال يلعبون ويركضون أمامها، حيث تفضل الصمت والانعزال.
تُحب "سارة" شقيقها "عمر" الذي يكبرها بثلاثة أعوام؛ لكنها تكره الكرسي المتحرك الذي يقف كالغراب الأسود إلى جوار باب المنزل، تقول والدتها "لا تحب الجلوس على كرسيها المتحرك، لكنها تعرف أنها مضطرة لذلك، وحين نهم بالخروج لا تسمح لأحد بأن يدفعها، إنها تُدير عجلاته بنفسها".
لقد كان السكوتر –دراجة بعجلات للأطفال- هو آخر ما طلبته من والديها قبل أن يتعرض منزلهم للقصف، ربما أرادت أن تُسابق به شقيقها عمر، أو لتظهر مهارتها في القيادة بخفة كما اعتادوا عليها مُنطقلةً ونشيطة، وليس كما تظهر الآن طريحة للفِراش، أو تحبو على الأرض إلى جوار شقيقها الرضيع كأنها تتعلم المشي من جديد.
عائلة سارة ترفض التسليم بفقدان الأمل، إنهم لا يدخرون جهدًا في المتابعة، "أنا لدي يقين كبير بعودتها على قدميها من جديد" تقول والدتها والتي تظهر متماسكة، بينما يلفت انتباهك الألعاب والأدوات المتوفرة في المنزل بهدف مساعدتها على استعادة التوازن لجسدها، وهم يتطلعون لأن تحصل ابنتهم على حقها في استكمال العلاج والرعاية أسوة بغيرها من ضحايا الحرب، وحتى تستطيع تحقيق أمنيتها باللعب مع شقيقها عمر كما في السابق.