قف هنا، ربما الجدار المهشم الذي تفرعت منه خطوط الكهرباء مثل شبكة العنكبوت يشكل خلفية أفضل للصورة. اجمع لنا أطفالك، ستكون الصورة أكثر تعبيراً.. لحظة من فضلك ابتسم وأنت تنظر إلى الكاميرا.
لنعيد المشهد التمثيلي مجدداً: نحن سنطرق باب الصفيح حاملين سلة غذائية، وأنت بدورك ستفتح الباب وستبدي إعجاباً ممزوجاً بالفرحة، ابتسم وقل شيئاً من قبيل المجاملة: شكراً للمتبرع الكريم، شكراً جمعية كذا.
هذا سيناريو منمق لمشهد تمثيلي مبتذل بطله فقير/ة، أو أسرة معوزة متعففة من أسر قطاع غزة التي تعاني جرّاء الحصار المفروض للعام الرابع عشر على التوالي من دون وجود أفق سياسي أو اقتصادي، قادر على تجاوز محنة الفقر التي تخطت نسبتها مؤخراً حاجز الـ 70%.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف سكان القطاع، الذين يبلغ عددهم مليوني نسمة، يعيش على المساعدات الإنسانية التي تقدمها المؤسسات الدولية والإغاثية، إلى جانب المؤسسات الخيرية المحلية.
ويبلغ عدد فروع الجمعيات الأجنبية العاملة في محافظات غزة 96 فرعاً، بينما يبلغ عدد المؤسسات والجمعيات الخيرية المحلية، بحسب إحصاءات صادرة عن وزارة الداخلية (1082) مؤسسة أهلية خدمية مرخصة.
ولو افترضنا أن هذه المؤسسات جميعها ستقوم بالتقاط صورة واحدة لكل مستفيد بهدف توثيق المشاريع والقيام بنشرها، بمتوسط عدد ألف مستفيد لكل مؤسسة من إجمالي عدد المؤسسات البالغ (1178)، فنحن نتحدث عن إيذاء نفسي يطال أكثر من مليون إنسان.
يضاف إلى هذا الإيذاء، سلسلة ممتدة من "كسر الخاطر"، نتيجة آليات التسجيل المتبعة وأسلوب التثبت من هوية الأشخاص، إلى جانب اشتراط توزيع المساعدات على المستفيدين بمقدار التزامهم الطوابير الممتدة، بدعوى إظهار حجم حاجاتهم!
في خضم هذه التجاوزات اللاأخلاقية لقواعد العمل الإنساني، ثمة سؤال لا إجابة عنه إلى الآن: ما الغاية من كل هذا الازدراء في التعامل مع الفقراء، وانتهاك خصوصياتهم؟
من المعروف، أن قواعد العمل الإنساني تقوم أولاً على الحفاظ على الكرامة الإنسانية للفقراء والمعوزين والنازحين وأصحاب الحاجة، فيما تأتي جهود توفير الحياة الكريمة في المقام الثاني. غير أن هذه القواعد قد غابت وسط فوضى انتهاك خصوصية هذه الفئات من الناس.
وعلى الرغم من تقديرنا لجهود المؤسسات الإغاثية والخيرية في دعم صمود الفقراء، وتفهمنا حاجة برامجها ومشاريعها الإغاثية إلى إظهار الأثر الإيجابي لتدخلاتها الإنسانية، بما يضمن استمرارية مشاريعها وتدفق قنوات الدعم، فإن هذا لا يعني في حال من الأحوال أن تتحقق جملة أهداف هذه البرامج والمشاريع على حساب كرامة المستفيدين.
دعونا نؤصل لفكرة اعتماد المواطنين على المساعدات. يصار إلى أنها فكرة سياسية بامتياز، كان القصد من ورائها إشغال المواطن بهمومه وحاجاته الضرورية اليومية، بعيداً عن فكرة الوطن والقضية ومشروع العودة وغيرها من قضايا أساسية تمس جوهر الحق الفلسطيني.
وحتى نكون أكثر واقعية علينا الإقرار بأن الاهتمام الأبرز بالنسبة إلى شريحة الفقراء وهي الأكبر والأضخم، ينصب حالياً وأكثر من أي وقت مضى، على جوهر الطرد الغذائي ومحتواه وقيمة المساعدات النقدية، أكثر من الاهتمام بالسياسة الدولية وارتباطاتها بقضيتنا نحن الفلسطينيين.
مواطن مغلوب على أمره يعاني رداءة في الخدمات الأساسية بما فيها الرعاية الصحية وإمدادات المياه والكهرباء، إلى جانب فقر مدقع يطال نصف سكان القطاع، فضلاً عن انعدام الأمن الغذائي لـ 62 % من الأسر، بماذا يمكن أن يفكر؟
وبالتالي، هذا مكّن إسرائيل خلال العقدين الأخيرين على الأقل، من الاستمرار في مشروعها التوسعي القائم على ضم مزيد من الأراضي، في غمرة انشغال المواطن الفلسطيني، بالبحث عن مقومات الحياة، كفرص العمل الموقت، ووصول التيار الكهربائي، وفتح المعابر، ذلك بعد أن استنزفت طاقته في الحروب والنزوح، وفقدان المأوى ومصادر الدخل، والبحث عن العلاج.
في المحصلة، ماذا أنتجت هذه السياسات؟
علينا الاعتراف أنها أوجدت تحولاً مثيراً ومريباً في آن واحد، تجاه سيطرة الحاجة الإنسانية إلى الطعام والشراب والدواء، على قضايا أُخرى مفصلية في حياة كل فلسطيني، وبالمناسبة هذه ليست مبالغة ولا جلداً للذات، لكنها اعتراف بالحق .... فالاعتراف بالحق فضيلة.
في مقابل ذلك، وأمام تضخم حجم الحاجة الإنسانية سعت مؤسسات إغاثية وخيرية لاستغلال هذه الحاجة ومارست أشكالاً متعددة من الابتزاز بحق المواطنين الفقراء، وهو ما أحدث شرخاً في صورة الفلسطيني المعروفة أمام العالم وحولها من الصامد في وجه الاحتلال، إلى شخص منكسر في صورة "متسول"!
قبل أيام قليلة أصدرت وزارة التنمية الاجتماعية في قطاع غزة، قراراً يقضي بمنع تصوير المستفيدين في أثناء عملية توزيع المساعدات، وهذا في حد ذاته قرار محمود، مع أنه غير كافٍ لوضع خط أحمر لهذه الممارسة، ما لم يتزامن مع الرقابة الدورية على أداء هذه المؤسسات والجمعيات وتقصي صور الفقراء في وسائل الإعلام المحلية والدولية.
هذه الرقابة على الأقل يمكنها أن تعيد لـ (لإعلام الإنساني) قيمته الحقيقية، كإعلام مسؤول يوازن بين متطلبات الممولين والكرامة الإنسانية للمستفيدين. علماً بأن الرقابة وحدها لا تكفي ما لم تقم المؤسسات الحقوقية بتبصير المواطنين (الفقراء) بحقوقهم عبر نشر وإذاعة محددات انتهاك الخصوصية ولوائحها، بما يشكل رادعاً أمام المؤسسات المبتزة ولضمان عدم اختراق هذه اللوائح.
كما أن على المستفيدين التفريق بين حاجة المؤسسات إلى التوثيق الإعلامي، وبين انتهاك خصوصيتهم من خلال نشر الصور المباشرة التي تظهر كامل ملامحهم - إلى جانب الاستعلاء والمنن في أثناء حصولهم على المساعدة - وضمان حقهم في تقديم الشكوى والاعتراض.
إضافة إلى ما تقدم، فإن على المؤسسات العاملة في هذا المجال، مراعاة قواعد العمل المهني والأخلاقي في التعامل مع المستفيدين من خلال تجنب استغلال حاجة الأطفال والنساء وكذلك الأسر المعوزة والترويج لها عبر وسائل الإعلام، واقتصار التوثيق على إبراز دور طواقمها الميدانية، من خلال تركيز الكاميرا على الشعارات واليافطات التي تحمل أسماء المشاريع، بما لا يظهر وجوه المستفيدين أو يكشف ملامحهم.