خطى مثقلة نحو المساعدة.. من يضمن السلامة؟

خطى مثقلة نحو المساعدة.. من يضمن السلامة؟

منذ شروق الشمس، تمدّدت طوابير النساء على الأرصفة الرملية، أجساد منهكة تواجه قيظًا يشتدّ كل ساعة، ووجوهٌ ترتفع نحو السماء كأنها تقيس المسافة بين الجوع والانتظار. ضجيج متصاعد، نداءات متداخلة، تدافع يزداد حدّة، وعرق يتساقط على الأرض الساخنة. واقع يختلط فيه الرجاء بالمهانة، وتتحوّل فيه المساعدات إلى امتحانٍ قاسٍ للتحمّل وللكرامة المهدَّدة، بدل أن تكون حقًا إنسانيًا بديهيًا. في هذا الزحام الذي لا يرحم، تتكئ النساء على أكتاف بعضهن، بينما يمسح كبار السن وجوههم بحثًا عن ظلٍّ لا يأتي.

ورغم أنّ المساعدات تُقدَّم بوصفها طوق نجاة، فإنّ الطريق إليها متاهة طويلة من الانتظار والفوضى. هندسة الحصول على المساعدة تُلقي بعبئها على الأضعف دائمًا: أماكن توزيع غير مؤهّلة، ونقاط بعيدة تُختار بلا مراعاة للفئات الهشّة، وغياب مظلات أو دورات مياه أو كراسي استراحة، ومنافذ ضيّقة لا تحتمل تدفّق الجموع. تعليمات يصيح بها الموظف بصوته المرتفع، تتلاشى وسط الصخب ولا تصل إلى أحد، بينما يتضاعف ارتباك الواقفين مع كل نبرة عصبية أو إشارة غير مفهومة.

وقبل أن تصلّ المساعدة إلى أي يدّ، تكون كثير من الأجساد قد دفعت أثمانًا مسبقة: ساعات طويلة تحت الشمس، إغماءات متكررة، حالات إنهاك وجفاف، بل إن البعض يُجبر على المبيت قرب المراكز لضمان دور مبكّر، فيما يتعرّض آخرون للدفع والاعتداء اللفظي، وقد سُجّلت إصابات واعتقالات عند بعض نقاط التوزيع الحدودية. هنا، لا تُقاس المساعدة بوزن طرد غذائي، بل بعدد الاختبارات التي يمرّ بها المحتاج قبل أن يصل إليه.

وسط هذا المشهد، كانت رجاء أحمد (62 عامًا) تفكّر، ليس في كيس الدقيق الذي بشّرها به الهاتف، بل في أحفادها الثلاثة الذين ينتظرون رغيفًا إضافيًا قد لا يأتي إلا مرة في الأسبوع. خرجت من بيتها الصغير وهي تحمل حفيدتها وقلقها معًا، وتوجّهت نحو مركز التوزيع القريب، لتجد نفسها أمام طابور يمتد بلا نهاية.

ستّ ساعات كاملة ظلّت رجاء ثابتة في مكانها، تُزاحمها الأكتاف من كل جانب، وتتقدّم ببطء شديد فيما تتراجع قدرتها على الوقوف. اشتدّ عليها الحرّ حتى شعرت بأنّ الأرض تهتزّ تحت قدميها، وتسلّل وجع حاد! إلى ظهرها ورأسها، لكنها بقيت متمسكة بدورها في الطابور. كلما حاولت الجلوس أو الاستناد، كانت تخشى أن تفقد مكانها، فواصلت الوقوف رغم الدوار والإنهاك، فقط لأن حفيدَيها ينتظران رغيفًا إضافيًا في المساء.

في غزة، لم يعد الوصول إلى المساعدات مجرّد حاجة، بل اختبارٌ يومي للبقاء، اختبار لا يفرّق بين شيخ أنهكه المرض، وامرأة فقدت قوتها، وذوي إعاقة تُترك حقوقهم على قارعة الطريق.

بالنسبة للمسنّة رجاء لم تنتهِ معاناتها عند اجتياز الطابور الطويل. فحين وصلت إلى البوابة بعد ذلك كله، فوجئت بالموظف يخبرها بأن التوزيع انتهى رغم ظهور اسمها على القائمة. تقول: "رجوتهم ألا يعود الأطفال خائبين. لا أملك ثمن الدقيق، وبعد إصراري الطويل سمحوا لي بالدخول أخيرًا."

كان كيس الدقيق بالنسبة لها فارقًا بين أن ينام الأطفال على القليل، أو أن يجدوا ما يكفيهم لأيام. فالعائلة كانت تشتري الدقيق بنحو ستين شيكلًا، وهو مبلغ يرهق أسرة تعيش بلا مصدر دخل منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، وما تبعها من حصارٍ وانهيارٍ كامل لفرص العمل.

قصة رجاء ليست معزولة، بل تمثّل نمطًا متكررًا من معاناة الفئات الهشّة في قطاع غزة، من النساء وكبار السن وذوي الإعاقة، الذين يواجهون صعوبات كبيرة في الوصول إلى المساعدات بسبب غياب الحدّ الأدنى من تهيئة أماكن التوزيع؛ فلا مراحيض، ولا أماكن جلوس، ولا ممرات آمنة. وتزداد الأزمة مع الشكاوى الواسعة من سوء العدالة في التوزيع، وغياب نظام فعّال لتلقّي الشكاوى ومعالجتها، سواء لدى وزارة التنمية الاجتماعية أو غيرها من الجهات المعنية.

ورغم أنّ شهادات الناس تكشف واقعًا ثقيلًا في نقاط التوزيع، فإنّ فهم المسؤوليات يساعد في تحديد أين تتعطلّ المنظومة وكيف يتسع الخلل. يُوزَّع عبء إدارة المساعدات بين عدّة جهات: وزارة التنمية الاجتماعية التي تُحدد القوائم ونقاط التوزيع، الجهات الأمنية المسؤولة عن ضبط الطوابير، البلدية التي تهيئ البنية التحتية حول النقاط، والمؤسسات الدولية التي تسلّم الشحنات وتراقب وصولها. هذا التشابك يجعل من الصعب تحديد المسؤولية المباشرة، لكنّه يبرز فجوة واضحة في التنسيق وغياب جهة واحدة تُحاسَب عند وقوع الانتهاكات.

عمر مصطفى (30 عامًا)، أبٌ لطفلين، كان يتوجّه إلى نقاط المساعدات الأمريكية في رفح جنوب قطاع غزة قبل أن يُصاب في قدمه. يقول: "كنت أذهب من الثانية ليلًا، وأقضي الليل قرب المركز حتى يفتح. أختبئ مع مجموعة تحت تلة من الرمال لنكون أوّل الواصلين. لكنهم كانوا يطلقون النار علينا (…) وأُصبت."

لم يكن مصطفى يتلقّى أي مساعدات من وزارة التنمية الاجتماعية أو المؤسسات الإغاثية الأخرى، بسبب منع دخول المساعدات آنذاك؛ ما اضطره إلى التوجّه إلى مراكز غير مهيّأة لاستقبال المدنيين، فقط لتأمين قوت يومه. كان يعود كل مساء بما يكفيه، إلى أن أصيب لاحقًا.

وفي الوقت الذي يواجه فيه الناس هذه الرحلة الشاقة داخل قطاع غزة، برزت مخاطر أكبر عند بعض النقاط الحدودية بين المحافظات، كما حدث في "مؤسسة غزة الإنسانية" التي افتتحت في جنوب ووسط القطاع، واستقبلت الآلاف مثل مصطفى منذ اليوم الأول لافتتاحها وحتى إغلاقها بالتزامن مع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر المنصرم، وفق شهادات حقوقية.

ويُعدّ تعرّض المدنيين للخطر أثناء التوجّه لنقاط المساعدات انتهاكًا مباشرًا لمبادئ القانون الإنساني الدولي، الذي يحظر استهداف أو تعريض السكان للخطر أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء.

وبحسب مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، سُجّلت حالات فقدان لأشخاص أثناء توجههم إلى تلك النقاط، ووُصفت بأنها "مصائد للقتل الجماعي"، كما وثّقت المؤسسة حالات اعتقال لأطفال هناك. وقالت "الضمير" إنها وثّقت 72 بلاغًا عن مفقودين قرب نقاط توزيع المساعدات وممرات دخول الشاحنات، مؤكدة غياب أي إجراءات أمان تضمن سلامة المدنيين أثناء إدخال المساعدات.

بلغة الأرقام، بلغت نسبة الفقر 100% في قطاع غزة، بينما يعاني 96% من السكان انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، وتعتمد الغالبية الساحقة على المساعدات الإغاثية في ظلّ فقدان مصادر الدخل. ومع ذلك، لا تزال الفئات الهشّة تعاني من عدم ملاءمة أماكن التوزيع وسوء العدالة في الحصول على المساعدة.

رانية محمد، أرملة وأم لثلاثة أطفال، أصيبت خلال الحرب. تصف يوم استلام المساعدة بأنّه "يوم عيد"، لكنها تروي أحد أصعب المواقف: "ذهبت سيرًا على الأقدام. احتجت إلى دورة المياه، لكن مكان الاستلام غير مؤهّل، واضطررت للانتظار سبع ساعات حتى أعود إلى خيمتي."

تضيف: "كان يومًا ماطرًا، هل يُعقل أن ننتظر سبع ساعات في البرد؟ لماذا لا يهيّئون المكان قليلًا؟ على الأقل مراعاة احتياجات النساء."

وتسأل السيدة بعد تنهيدة طويلة: "لمن نشتكي سوء عدالة التوزيع؟ ولماذا لا تُخصَّص أماكن تراعي احتياجاتنا؟ هل من الممكن أن تُسهَّل العمليات مستقبلًا من دون إذلال وانتظار؟"

ومن بين الفئات الأكثر صعوبة في الوصول إلى المساعدات، ذوو الإعاقة، الذين لا يجدون أماكن مهيّأة للحركة أو الانتظار، رغم أن القانون الفلسطيني رقم (4) لسنة 1999 يكفل حقوقهم بشكلٍ صريح، وينصّ على تسهيل وصولهم إلى الخدمات والمساعدات.

هنادي رضوان، من ذوي الإعاقة البصرية، تسلّمَت طرودًا إغاثية لمرّات محدودة، لكنها كانت تواجه عقبة جديدة في كل محاولة. تقول وهي تتحسّس الكرسي في خيمتها جنوب قطاع غزة: "أعاني كثيرًا عند استلام المساعدات. يرسلونني إلى أماكن بعيدة جدًا، فأتكلّف مواصلات مرهقة لي ولمرافقي. لا توجد أماكن انتظار مناسبة، ولا مراحيض… كأنّنا خارج حسابات الجميع."

وبناءً على هذه الشهادات، تبرز أسئلة لا بد من طرحها على الجهات الرسمية: لماذا تُختار نقاط توزيع بعيدة وغير مهيّأة رغم وجود بدائل أقرب وأكثر أمانًا؟ لماذا لا تُنشر قوائم المستفيدين مسبقًا للحد من الازدحام والفوضى؟ لماذا تُترك النساء وكبار السن وذوو الإعاقة بلا مرافق أساسية كالمراحيض وأماكن الجلوس؟ من الجهة المسؤولة عن تأمين ممرات إدخال المساعدات حيث سُجّلت حالات فقدان وإطلاق نار؟ ولماذا لا تُفعَّل آلية شكاوى واضحة وسهلة الوصول؟

وأمام هذا القصور الميداني، يصبح السؤال الأهم: ما المطلوب هندسيًا لتأهيل نقاط توزيع المساعدات؟

توضح معايير الاستجابة الإنسانية الدولية، أن تهيئة نقاط توزيع المساعدات تعتمد على إجراءات بسيطة: توفير مظلات، أماكن جلوس للفئات الهشة، ممرات منظمة للحشود، آليات ترقيم واضحة، ومراحيض متنقلة قريبة. وتشدد هذه المعايير على أن غياب تلك العناصر يجعل عملية التوزيع غير آمنة ويزيد من تعرض الفئات الأضعف للخطر.

كيف تُهندِس وزارة التنمية الاجتماعية عمليات التوزيع؟

ولمواجهة هذا التباين بين شهادات الناس والتعليمات الرسمية، توجهت "آخر قصة" إلى وزارة التنمية الاجتماعية للاستفسار عن آليات التوزيع والمعايير المتّبعة. المتحدثة باسم الوزارة، رجاء العابد، قالت: "تُصدر الوزارة تعليمات ميدانية واضحة لضمان سلامة عمليات التوزيع، خصوصًا في المناطق المتضررة أو المعرضة للخطر".

وأشارت إلى أنّ التعليمات تشمل اختيار نقاط توزيع آمنة، وتنسيق التوزيعات قرب مراكز الإيواء والمناطق السكنية، مع إعطاء الأولوية للأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن من خلال إيصال المساعدات إليهم مباشرة عبر فرق ميدانية مختصة.

وأضافت أن عمليات التوزيع تخضع لإشراف مباشر من المديريات عبر تقارير أسبوعية توضح أعداد المستفيدين وطبيعة المساعدات، مشدّدة على التعميم الدائم لمدوّنة سلوك تلزم بالمعايير الإنسانية واحترام كرامة المستفيدين ومنع التجاوزات.

وأوضحت أن الوزارة تنسّق مع الجهات ذات العلاقة لتحديد نقاط مناسبة، وتضمن الأولوية للفئات الهشّة: النساء الأرامل والمطلقات، كبار السن، الأشخاص ذوي الإعاقة، والأطفال الأيتام.

ورغم وضوح هذه التعليمات على الورق، تُظهر الشهادات الميدانية التي وثقتها "آخر قصة" فجوات واسعة بين الرواية الرسمية والممارسة الفعلية في نقاط التوزيع؛ إذ تشير الشهادات إلى غياب المظلات، نقص التنظيم، عدم وصول الفرق الميدانية لكبار السن، وغياب المسارات التفضيلية التي تنص عليها تعليمات الوزارة. فـإلى متى سيظلّ الغزيون ينتظرون إجابةً تليق بكرامتهم؟