إلى جانب جدار تآكل لونه بفعل الزمن والحرب، تجلس أسماء محمد (*) ذات الثلاثين عامًا التي أنهكها الانتظار. تتابع ببصرها طفليها وهما يلعبان وسط أنقاض دير البلح، قبل أن يخرج صوتها واهنًا بعد سبعمئة يوم من الصمت: "أنا مُعلَّقة منذ عامين". بهذه العبارة القصيرة، الثقيلة كالحجر، تفتتح أسماء حكايتها؛ حكاية امرأة علّقت الحرب حياتها بين زواجٍ انتهى وطلاقٍ لا يأتي.
قدّمت السيدة محمد طلب الطلاق قبل الحرب بشهر واحد فقط، هربًا من سنوات من الخلافات التي لم تعد تُحتمل. تَوهَّجت في داخلها آنذاك شعلة أمل صغيرة، ظنّت أنها ستنقذها. لكن الحرب جاءت لِتُطفئ كل شيء. تقول: "أغلقت كل الأبواب في وجهي، حتى باب المحكمة".
لم يعد هناك أثر لملف قضيتها. فمبنى المحكمة الشرعية في غزة لم يسلم من القصف، وتحوّل ملفها، مع آلاف الملفات الأخرى، إلى غبارٍ ورقٍّ محترق. "كل مرة أذهب فيها لأتساءل، يقولون لي: 'لا يزال لا يوجد عمل في المحاكم'. مرة يقولون لي يمكن الملف احترق، ومرة يعدونني: 'عندما تهدأ الأمور سننظر في الأمر'". وهكذا وجدت أسماء نفسها في حيّز قانوني غامض، لا هي متزوجة رسميًا ولا هي مطلقة قانونيًا.
تردف: "الناس تسألني دائمًا: 'هل عدتِ إلى زوجك؟' لا أعرف ماذا أجيب. لا أملك ورقة تثبت شيئًا، حتى أنني لا أستطيع المطالبة بنفقة أولادي. لا يوجد حكم رسمي". تصف حياتها بأنها "مجمَّدة". حتى حالها النفسية مُتعبة، فهي تشعر باستمرار أنّها لا تعرف كيف تبدأ من جديد بدون ورقة تقول إنّها مطلقة رسميًا، فهي لا تريد شيئًا سوى حقها؛ وترفض أن تعيش تحت ظلم زوج ولا تحت ظلم نظام متوقف.
على بُعد بضع أميال من هناك، تروي دعاء ماجد (*)، (28 عامًا) حكايةً مختلفة عن نفس الظلم، لكنّها تصل إلى نفس الطريق المسدود. تقول إنها قضت خمس سنوات "تدفع ثمن الزواج بكرامتها"، على يدي زوج كان يضربها ويهينها. ثم جاءت الحرب لتفاقم الوضع؛ فزوجها، الموظف في القطاع العام، أصبح أكثر توترًا وعدوانية بعد أن فقَدَ جزءًا من راتبه. تردف: "كنت أشعر أنّ المكان الذي أتواجد فيه سجن، وأن كل يوم قد يكون نهايتي".
وعندما "طفح الكيل" وطلبت الطلاق، لم تكن تتخيل أن الثمن سيكون "مثل الصاعقة". وافق الزوج، لكن بشرطٍ وحيد: أن تتنازل عن المؤخر، وأثاث البيت، وأغراضها الشخصية، وحقوق أولادها. تتابع: "قال لي بالحرف: 'تريدين الطلاق؟ اخرجي بلا شيء'". وكان واثقًا، كما توضح دعاء، من أنّ المحكمة لن تعمل بسرعة، وأنّ الزمن في صفه. محاولاتها للوصول إلى حكم لم تثمر عن شيء، تُعقب: "الحرية جميلة، لكن يبدو أنّ ثمنها في غزة غالٍ جدًا، لدرجة يجعلك تتراجعين عنها أحيانًا".
ورغم أنّ قصص النساء المعلّقات تكشف جانبًا مظلمًا من النزاع، فإنّ الأرقام الرسمية تضيف زاوية أخرى للصورة، وتكشف المفارقة التي تعيشها غزة اليوم. فمن أكتوبر 2023 حتى يونيو 2024، أُنجزت ما يقارب 82,126 معاملة شرعية شملت الوفاة والزواج والطلاق. وعلى الرغم من أنّ هذه المعاملات قد تُفهم كمؤشر على محاولة الحياة الاستمرار رغم الدمار، فإنّ البيانات تخفي حقيقة أكثر تعقيدًا 12.6%، من جميع المعاملات كانت حالات طلاق مُنجز، في وقتٍ لا تزال فيه آلاف النساء خارج هذه النسبة، عالقات في قضايا لا تُبتّ، أو ملفات ضاعت تحت الركام، أو جلسات تؤجَّل بلا نهاية.
هنادي فهمي (*) (37 عامًا) من خانيونس جنوب القطاع، هي وجه آخر من وجوه هذه المعاناة. فرغم رفعها دعوى التفريق منذ عام 2020 بعد سنوات من العنف الأسري، فإنّ المحكمة لم تمنحها الحماية المطلوبة. تقول: "كنت أعتقد أنّ القانون سيحميني ويؤمن لي حقي، لكن كل جلسة كانت تنتهي بلا نتيجة". كانت تأمل في العدالة، لكنها اصطدمت بتأجيلات متكررة لأن زوجها قدّم "شهود زور"، كما تؤكد.
تصف فهمي: "الضرب كان مؤلمًا، لكن التأجيل المتكرر في القضاء أكثر إيلامًا من الضرب بكثير". خلال الحرب، تنقلت بين بيت أهلها وبيوت الإيواء المؤقتة، ومع كل انتقال، ازدادت صعوبة حياتها اليومية: المأكل، الملبس، حضانة أولادها، والشعور الدائم بعدم الأمان. كانت تستيقظ أحيانًا على أصوات طفليها وهي ترتجف من فكرة فقدانهما؛ لا مكان يبدو آمنًا، وكل زاوية تحمل احتمال الخسارة، ظلّ هذا الخوف يلازمها، خاصّة وسط تهديدات مستمرة من زوجها بانتزاعهما منها.
أما آية أحمد (*)، البالغة من العمر خمسةً وعشرين عامًا، فتعاني شكلًا آخر من أشكال الحرمان، أشدّ قسوة. فقد نفّذ زوجها تهديده حين توعّدها بأن يجعلها "تتحسّر على أطفالها" ويحرمها أغلى ما تملك؛ فمنذ عامين أخذ طفليها ولم يُعدهما. تمسك آية هاتفها وتُحدّق في صورهما، قبل أن تقول بصوت ينكسر: "لا أريد أن أكتوي بفقدهم، أريد أولادي".
استغل زوجها ظروف الحرب ببرودة. "كان يرسل لي رسائل من أرقامٍ مجهولة، ويقول: 'هذه الحرب نعمة، لا توجد محاكم، لا يوجد قانون'". وهددها صراحة: "إذا فتحت موضوع الطلاق، والله لن ترى أولادك مرة أخرى وسأجعلك معلقة". تحكي عن اليوم الذي فقدت فيه أطفالها، وهو اليوم الذي كان يحق لها فيه رؤيتهم بقرار من المحكمة: "كان يوم 5 أكتوبر، ومنذ ذلك اليوم لم يرجعهم. والحرب اندّلعت وانتهت ولم يعود أولادي".
ينصّ القانون الفلسطيني للأحوال الشخصية لعام 1976 بوضوح على أنّ الطلاق هو حل عقدة الزواج، ويضمن للمرأة حقوقها القانونية من مهر ونفقة وحضانة. لكن النصوص وحدها لا تكفي عندما تتحوّل المحاكم إلى ركام. يقول المحامي الشرعي محمد بارود حجم الكارثة: "الدمار الذي طال البنية التحتية للمحاكم وفقدان آلاف الملفات، بما فيها وثائق الزواج وحجج النفقة، أوقف عمل القضاء الشرعي بشكلٍ شبه كامل".
هذه الأوضاع أنتجت فئة جديدة وكبيرة من النساء، يردف: "النساء المعلقات، لا هُنّ متزوجات ولا مطلقات، مما يحرمهن من المطالبة بحقوقهن الشرعية والمالية". ويشير إلى أن "بعض الأزواج يستغلون هذا الفراغ القانوني للتهرب من التزاماتهم"، مؤكدًا بارود أن توقف القضاء لمدّة عامين يحرم النساء من حقوق أساسية مثل النفقة والمؤخر وحضانة الأطفال، بل وحتى من إثبات الطلاق أو الزواج بشكلٍ رسمي.
ويقترح بارود بدائل مؤقتة، مثل التوجه إلى مراكز الدفاع عن المرأة والطفل لتوثيق الحالات، أو الاستعانة بشهادات الشهود، لكنّه يعود ليحمّل المسؤولية النهائية للحرب والواقع الصعب: "المشكلة الأساسية هي عدم وجود جهة بديلة لتنفيذ الأحكام في هذه الظروف الاستثنائية؛ ما يجعل النساء وأطفالهن الضحية الأكبر لتعطلّ القضاء".
المحامية هدى جبر، التي تعمل مع مؤسسات نسوية تتابع قضايا العنف الأسري والحقوق القانونية للنساء، تُقدِّم قراءة مختلفة تُسلّط فيها الضوء على البعد البنيوي للأزمة. فهي ترى أنّ مشكلة "النساء المعلّقات" لا تتوقف عند تعطّل المحاكم أو ضياع الملفات، بل تتجاوز ذلك إلى انهيار منظومة الحماية نفسها. تقول جبر إن الحرب "عرّت هشاشة البنية القانونية التي كان يُفترض أن توفر للنساء ملاذًا آمنًا عند الانتهاك"، مضيفة أن غياب المحاكم خلق فراغًا ترك آلاف النساء بلا قدرة على إثبات حقوقهن أو الوصول إلى آليات الإنصاف الأساسية.
وتوضح أنّ المؤسسات النسوية تواجه يوميًا نتائج هذا الانهيار: نساءٌ بلا نفقة، بلا إثبات حضانة، أو بلا أوراق قانونية تثبت وضعهن الأسري. وتشير إلى أنّ التعطّل لا يعني فقط تأخير الإجراءات، بل "تعليق هوية المرأة القانونية"، إذ تبقى لسنوات بين وضعين لا يمكن العيش في أي منهما. وتختتم بأن "غياب آليات حماية بديلة، ولو بشكل مؤقت، حوّل ما كان يجب أن يكون إجراءات قانونية واضحة إلى أزمة إنسانية تمس كرامة النساء وحقهن في الأمان والاختيار".
بدورها، تُشير المختصة الاجتماعية والنفسية جمانة عبد الهادي إلى الآثار العميقة لهذه الأزمة. "النساء المعلقات بسبب الحرب يعشن حالة من الضغط النفسي المستمر، فالانتظار الطويل لتثبيت الطلاق أو استعادة حقوق النفقة والحضانة يولّد لديهن شعورًا بالعجز وفقدان السيطرة على حياتهن". وتحذر من أن تأثير هذا الوضع لا يقتصر على المرأة وحدها، بل يمتد تأثيره إلى الأطفال الذين يعانون من فقدان الاستقرار الأسري والشعور بعدم الأمان.
وتوضح عبد الهادي أنّ "انقطاع سير المحاكم وغياب الملفات القانونية يزيد من حالات الاكتئاب والقلق، ويجعل النساء أكثر عرضة للاستغلال من قبل الأزواج أو الأسر، إذ تضطر أحيانًا للتنازل عن حقوقهن المالية الشرعية حفاظًا على استمرار حياتها وحياة أطفالها".
بعد عامين من الحرب، لا تزال ملفات الطلاق تنتظر على رفوف مهدمة، ونساء ينتظرن حكمًا يعيد إليهن حياتهن. بين الركام والملفات المفقودة، تبقى العدالة مؤجلة، تمامًا مثل الحياة نفسها في غزة.


