بنوك الدم فارغة: ماذا ينتظر مرضى الثلاسيميا؟

بنوك الدم فارغة: ماذا ينتظر مرضى الثلاسيميا؟

وجهها الشاحب يكشف ما تحاول أن تُخفيه ابتسامتها المتعبة. تحت عينيها هالات داكنة تشي بأنّ الدم الذي كان يُمدّ جسدها بالحياة بدأ ينضب. مها عوض (22 عامًا)، التي أنهكها داء الثلاسيميا منذ طفولتها، ترفع ذراعها النحيلة ببطء، وما تزال آثار الإبر القديمة واضحة عليها، وتهمس بصوتٍ واهن: "كنت أحتاج إلى نقل دم كل ثلاثة أسابيع، الآن مرّ أكثر من شهرين، أشعر بأنّ جسمي ثقيل، ووجهي قاتم اللون".

في كل لحظة تمرّ، يخفت لون وجهها أكثر، يزداد صداعها، وتفقد شهيتها للطعام، بينما تحاول أمها عبثًا إقناعها بتناول القليل من الحساء. عوض لا تعاني من عارضٍ مؤقت، بل من واحدٍ من أكثر أمراض الدم الوراثية خطورة، وهو الثلاسيميا، الذي يجعل حياة المصاب معلّقة بوحدات دمٍ دورية وأدويةٍ خاصة لإزالة الحديد الزائد من الجسم.

غير أنّ الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023 حرمتها من الشريان الوحيد الذي كان يُبقيها على قيد الحياة، تاركة جسدها الصغير يواجه فقر الدم، والجوع، والخوف في آنٍ واحد. 

لم تكن "عوض" سوى حالة واحدة بين أكثر من 300 مريض بالثلاسيميا في القطاع. مع انهيار النظام الصحي ونفاد الأدوية والدم، تحوّل مرضهم الوراثي إلى رحلة طويلة مع الألم والانتظار على حافة الحياة، فيما حُرِم نحو 80 طفلاً منهم من علاجهم الدوري منذ بدء النزاع.

وبحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، يشكّل مرضى غزة ثلث المصابين بالثلاسيميا في فلسطين (866 مريضًا)، وتبلغ نسبة حَمَلة الجين المسبّب للمرض بين 3 و4% من السكان، علمًا أنّ معظم الحالات في القطاع مصابة بالنوع الأشدّ خطورة، المعروف بـ "الثلاسيميا الكبرى"، الذي يحتاج صاحبه إلى نقل دم دوري مدى الحياة للحفاظ على مستوى خضاب الدم في حدودٍ آمنة.

على مدار سنوات قبل نشوب الحرب، كان يُنظر في قطاع غزة إلى هذا المرض بوصفه تحدّيًا طبيًا يمكن السيطرة عليه عبر نقل الدم المنتظم وبرنامج الفحص الإلزامي قبل الزواج الذي اعتمدته وزارة الصحة الفلسطينية منذ عام 2000، لتقليل انتشار الجين المسبّب له بين الأزواج الشباب؛ إلا أنّ النزاع بدّل المعادلة: فالعلاج لم يعد متاحًا، والمراكز الطبية التي كانت تحفظ حياة هؤلاء أغلقت أبوابها أو تهدّمت تحت القصف.

الطبيب فؤاد نجم، اختصاصي أمراض الدم في غزة، يقول إن "الثلاسيميا ليست مرضًا نادرًا هنا، لكنها كانت تحت السيطرة حتى السابع من أكتوبر 2023. أما اليوم أصبح معظم مرضى القطاع يعيشون على أملٍ ضئيل بالحصول على كيس دم واحد".

لكن هذا النظام العلاجي انهار مع الأيام الأولى للنزاع، فالمستشفيات الثلاثة التي كانت تقدّم خدمات نقل الدم وهي مجمع الشفاء الطبي، الأوروبي، والرنتيسي للأطفال، قد أُصيبت بأضرارٍ جسيمة أو خرجت عن الخدمة كليًا، وتشتت المرضى بين مراكز إيواء لا تتوافر فيها أدّنى مقومات الرّعاية الصحيّة.

هذا التدهور لم يقتصر على ضعف الخدمات فحسب، بل امتد إلى الأرواح نفسها، إذ يشير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى أنّ هذا الانهيار إلى وفاة 45 مريضًا بالثلاسيميا منذ أكتوبر 2023، بينهم 31 مريضًا بسبب انقطاع العلاج المنتظم وسوء التغذية، فيما حُرم نحو 244 مريضًا آخرين من الوصول إلى العلاج الدوائي ونقل الدم المنتظم، في انتهاكٍ وصفه المركز بأنه "جريمة إبادة جماعية" وفق المادة (2/ج) من اتفاقية منع جريمة الإبادة.

تقول نوال حمادة، رئيسة جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا، إنّ "الكثير من الأطفال المصابين يعيشون اليوم في خيامٍ مكتظة تفتقر إلى أبسط مقومات الرعاية الصحية، بينما تعاني المستشفيات من انقطاع الكهرباء وتعطّل ثلاجات حفظ الدم، ومن غياب الأدوية التي تمنع تراكم الحديد في أجسام المرضى".

تضيف حمادة: "هؤلاء المرضى لا يستطيعون تأجيل علاجهم، فكل يوم دون نقل دم يعني تراجعًا في وظائف القلب والكبد. الحرب جعلت الحياة نفسها رفاهية مؤجلة لهم".

وفي الوقت الذي تستمر فيه أزمة انقطاع الوقود وانقطاع الكهرباء، يتعذّر حفظ وحدات الدم القليلة المتبقية في الثلاجات الطبية. ووفقًا لما أشار إليه الطبيب نجم أنّ بنك الدم المركزي في غزة كان يعتمد على مولدات ضخمة لتخزين الدم، لكن الوقود نفد، والمخزون تالف أو محدود للغاية.

وبينما تتراكم الأزمات التي ولّدتها الحرب فوق أوجاع المرض، تتحوّل الثلاسيميا من اضطراب جيني مزمن إلى مرآة تكشف انهيار النظام الصحي في غزة، حيث لا يجد مريض الدم دمًا، ولا يجد الأطباء علاجًا، ولا تجد العائلات سوى الانتظار على أمل أن يُسمح بدخول شاحنات الإمدادات الطبية خاصّة بعد إعلان وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر الحالي وتجدد الأمل في علاج يُبقي أبناءهم على قيد الحياة.

من داخل غرفة متضررة من قصف إسرائيلي في بنك الدم المركزي داخل مجمع الشفاء الطبي، يوضح الطبيب عدنان حرارة أنهم كثيرًا ما يطلبون أربع وحدات دم لمريض واحد فلا يحصلون إلا على وحدة، وأحيانًا لا يحصلون على شيء على الإطلاق.

على سرير في إحدى غرف هذه المستشفى، يجلس الحاج عبد الهادي أبو سمرة (67 عامًا)، أحد مرضى الثلاسيميا، وقد غطّت ذراعيه آثار الإبر التي لازمته منذ أكثر من أربعة عقود. وجهه يغلب عليه الاصفرار، تختلط ملامحه بلونٍ رماديٍّ باهت يغلب عليه الشحوب، وعيناه تغيبان في فراغٍ صامت كأنهما تبحثان عن زمنٍ آخر.

يقول بصوتٍ خافتٍ متقطّع وهو يحاول التقاط أنفاسه: "نجوت من القصف مراتٍ كثيرة، لكن الحرب التي لم تقتلني بالصواريخ، قد تقتلني الآن بطريقةٍ أخرى، حين لا أجد كيس دمٍ يُبقي قلبي يعمل".

بجانبه تقف الممرضة نهى جبريل، تثبّت القسطرة في ذراعه المتعبة بحذرٍ شديد، ثم تضع كيس الدم على الحامل المعدني وهي تنظر إليه بعينين يغمرهما الأسى، وتتابع حركة الجهاز الذي يوشك أن يتوقف مع كل انقطاع كهرباءٍ مفاجئ، ثم تهمس: "إن تأخّر التيار الكهربائي دقائق، نُخسر ما تبقّى من الدم المخزون، وكل انقطاع يعني تأجيل حياة شخص ما".

وبحسب مدير عام مجمع الشفاء الطبي، محمد القرا، صُرف في حزيران/يونيو 2025 نحو 10 آلاف وحدة دم في غزة، منها 3500 وحدة وصلت من الضفة الغربية، فيما وُفّر الباقي من متبرعين محليين أنهكتهم المجاعة وسوء التغذية، كما تعرّض بنك الدم المركزي لأضرار جسيمة تسببت في فقدان كميات حيوية من المخزون.

وفي موازاة ذلك، حذّرت منظمة الصحة العالمية من وصول النظام الصحي في غزة إلى حافة الانهيار، كما أشارت تقارير محلية إلى أنّ 94% من المنظومة الصحية خرجت عن الخدمة بالكامل.

وبناءً على تحليل أجرته "آخر قصة" لمجموعة من بيانات وزارة الصحة وتقارير الجمعيات الطبية، يتبيّن أن متوسط احتياج مريض الثلاسيميا في غزة يبلغ نحو وحدتين من الدم شهريًا، أي ما يعادل 24 وحدة سنويًا. ومع وجود أكثر من 300 مريض مسجّل في القطاع، فإن إجمالي الاحتياج خلال عامي الحرب يصل إلى نحو 14,400 وحدة دم.

في المقابل، تُظهر السجلات الرسمية أن ما أُمن فعليًا خلال الفترة ذاتها لم يتجاوز 6,500 وحدة دم، وهي كمية شملت احتياجات جميع المرضى في غزة، من الجرحى ونساء الولادة والحالات الطارئة، وليس مرضى الثلاسيميا وحدهم.

هذا التفاوت الكبير يعني أن المصابين بهذا المرض الوراثي تلقّوا أقل من ثلث احتياجاتهم الأساسية من الدم، بعجزٍ يفوق 70% من الكميات المطلوبة.

ولا يُظهر هذا العجز خللًا في الإمداد فحسب، بل يعكس انهيارًا منهجيًا في منظومة الرعاية الطبية التي جعلت “الدم” في غزة عملة حياةٍ مؤجلة، يُقاس توفرها بمدى دخول الوقود والكهرباء، لا بمدى الحاجة الإنسانية.

وفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) الصادر في أغسطس/آب 2025، يعيش أكثر من 1.14 مليون شخص في غزة مجاعة كارثية (Phase 5)، بينما يواجه 640 ألفًا حالة طوارئ غذائية (Phase 4)، وهي أوضاع تُعدّ سابقة في الإقليم.

هذه المجاعة لا تعني فقط غياب الطعام، بل انهيار منظومة الحياة بأكملها، أجسادٌ تضعف، مناعةٌ تتآكل، وأدويةٌ لا تعمل كما ينبغي في غياب التغذية السليمة.

وبينما يستطيع الأصحاء تحمّل الجوع يومًا أو أكثر، فإنّ مرضى الثلاسيميا يعيشون حالة أكثر قسوة؛ فكل وجبة ناقصة تُفقد أجسامهم القدرة على الاحتفاظ بالدم المنقول، وكل تأخير في الغذاء يضاعف من هشاشتهم أمام المرض. الجوع بالنسبة لهم ليس شعورًا عابرًا، بل تهديدٌ حقيقي لبقائهم، إذ تتفاقم الأنيميا، وتتراجع مستويات الهيموغلوبين إلى مستويات حرجة تجعل أقل مجهودٍ جسديٍّ عبئًا على القلب والكبد.

في إحدى مخيمات النزوح بمواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، تُهدّئ أم جوري طفلتها التي تصرخ تحت الإبرة أثناء نقل الدم، وتقول بصوتٍ متهدّج: "قبل الحرب كنت أطعمها اللحم والرمان والفواكه لتقوية جسمها، أما الآن فقد أصبح كل شيء باهظًا. حتى الماء المفلتر أصبح ترفًا".

تتابع حديثها وهي تشدّ البطانية حول جسد ابنتها النحيل: "الليل هنا قاسٍ، البرد ينخر عظامها، جسدها لا يحتمل. كانت تركض وتضحك، والآن لا تقوى حتى على الجلوس. تنام معظم الوقت، وتستيقظ لتبكي من التعب والبرد."

تتوقف الأم لحظة، تنظر إلى طفلتها بعينين تملؤهما الخوف والعجز، ثم تضيف: "أشعر أحيانًا أن الحرب تسرقها ببطء، ليس بالقصف، بل بالمرض والبرد والضعف الذي يأكلها كل يوم أكثر."

على نحوٍ غير بعيد منهما، داخل المستشفى الأوروبي جنوب غزة، يرقد الطفل عبد الرحمن على سريرٍ معدني بارد، يخفي بذراعيه النحيلتين التشوّهات التي خلّفها تراكم الحديد في جسده بعد انقطاع أدوية إزالة الحديد منذ أشهر. تقول الممرضة هالة مجدي وقد أنهكها العمل: "نخسرهم واحدًا تلو الآخر؛ لأن كل شيء توقّف، الدم، الأدوية، الكهرباء."

بين أنابيب الدم الفارغة وثلاجات المستشفيات المعطّلة، يقف مرضى الثلاسيميا في غزة شاهدين على ما تسميه الأمم المتحدة "نظامًا صحيًا في طور الانقراض". ليس لأن المرض بلا علاج، بل لأن العلاج محاصر.

ومنذ سريان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر الجاري، بدأت بعض الشاحنات التي تحمل الغذاء والدواء والوقود بالدخول إلى غزة، غير أنّها لا تزال محدودة أمام الاحتياج الكبير، لتبقى معضلة الدواء معادلة مرتبطة مباشرة بلحظة السلام أو الحرب.

وفي مكانٍ ما، خلف جدران الخيام البلاستيكية في غزة، هناك فتاة ما تزال تنتظر نقطة دم، لتمنحها فرصة للبقاء على قيد الحياة لليوم التالي؛ فرصة لمنع قلبها النحيل من التوقف، لمنع كبدها المرهق من الاستسلام، ولتؤجّل موتًا آخر في زمن الموت الجماعي.