غزة: حين يبدأ الرضّع حياتهم في طوابير الانتظار

غزة: حين يبدأ الرضّع حياتهم في طوابير الانتظار

لا شيء يوجع قلب أمٍّ كعجزها أمام بكاء طفلها. تجلس عبير صافي في خيمتها وسط ازدحام خيام النازحين في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تمسح العرق عن وجه صغيرها "أمير" الذي وُلد وسط الحرب وبدأ حياته بين الفقد والجوع والحاجة، تهدهده بذراعين متعبتين محاولةً تهدئته من ألم الطفح الجلدي الذي يغزو جسده.

تقول بصوتٍ متعب: "حاولت كثيرًا أن أوفّر له حفاضات أو حتى صابونًا، لكن الغلاء كان عائقًا دائمًا، ومرّت أيام لم أجد فيها أي مواد للنظافة، فأصيب طفلي بالتهابٍ بكتيري".

طرقت عبير أبواب عشرات المؤسسات الإغاثية وسجّلت في روابط إلكترونية متعددة، لكنها لم تحصل سوى على عبوة حفاضات واحدة.

القصة نفسها تتكرّر مع هدى، والدة الطفلة مريم سامح التي لم تتجاوز العامين، إذ تقول: "منذ ولادة مريم وأنا أحاول تأمين احتياجاتها، حصلت على حفاضات مرتين فقط، وعلى علبة حليب واحدة منذ بداية النزاع".

تُضيف الأم، وهي تحتضن طفلتها النحيلة: "عشنا مجاعة حقيقية في شمال قطاع غزة، ولم يكن لدينا حليب أو غذاء كافٍ، حتى إن جسدي لم يعد قادرًا على إرضاعها".

وفي بلدة الزوايدة وسط القطاع، تروي شيماء كحيل، وهي نازحة من حي الصبرة وأمٌّ لخمسة أطفال، بينهم اثنان وُلدا خلال الحرب، معاناتها وهي تشير إلى طفلتها الصغيرة: "أوزان أطفالي الصغار أقل من الطبيعي. سيلا عمرها سنة وثمانية أشهر ووزنها سبعة كيلوغرامات ونصف، وشقيقها شفيق عمره ثمانية أشهر ولا يتجاوز وزنه خمسة كيلوغرامات."

تصف كحيل ساعات الانتظار الطويلة أمام مقارّ المؤسسات الإنسانية تحت الشمس الحارقة، قائلة إنّها غالبًا تعود خالية الوفاض بعد محاولات متكررة لتأمين أبسط الاحتياجات.

على مقربة منها، تجلس نسمة الدردساوي على قطعة إسفنج بالية داخل خيمتها، تهدهد طفلها وتقول بصوتٍ يملؤه التعب: "منذ اندلاع الحرب لم أحصل إلا على عبوة حفاضات واحدة في بدايتها، وعلبة حليب واحدة قبل فترة قصيرة. أمضي أيامي بين التسجيل والانتظار، أعاني من عجزٍ تام في تلبية احتياجات أطفالي."

أما أيمن أبو غالي (29 عامًا)، فيقيم في خيمة صغيرة مع زوجته وطفليه البالغين عامين وثلاثة أشهر. ينظر إليهما النائمين على بطانيةٍ رقيقة ويقول: "أستدين من أقاربي لأوفر الحفاضات والصابون، وها هو فصل الشتاء يقترب ولا أملك فراشًا أو بطانيات تقيهم البرد."

تتجمع هذه الشهادات لتشكّل مشهدًا واحدًا لواقع الطفولة الممزقة في غزة، حيث يعيش آلاف الأطفال الذين وُلدوا خلال الحرب وكبروا في ظلّ الفاقة والعوز والمساعدات الشحيحة، بلا حليبٍ ولا دواءٍ ولا مأوى، في انتظار بارقةِ حياةٍ قد لا تلوح قريبًا.

ورغم دخول اتفاق وقف إطلاق النار المرحلي حيّز التنفيذ خلال الأيام الماضية، وما تلاه من التزامات بفتح المعابر وزيادة المساعدات، فإنّ دائرة المعاناة ما تزال تدور في مكانها.

تنصّ الخطة الأممية الجديدة على إدخال نحو 600 شاحنة مساعدات يوميًا إلى قطاع غزة، محمّلة بالمواد الغذائية والطبية ومستلزمات الإيواء، كما أعلنت الأمم المتحدة عن خطة تمتد لـ ستين يومًا لتوسيع نطاق إمدادات الغذاء والرعاية الصحية.

لكنّ الواقع الميداني لا يعكس هذه الأرقام؛ فالكثير من الشاحنات لا تزال قابعة عند المعابر بانتظار التصاريح والضمانات الأمنية. وحذّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) من أنّ حجم الاستجابة الحالية "لا يغطي سوى جزءٍ محدود من الاحتياجات الهائلة"، في ظلّ استمرار المجاعة وانهيار البنى التحتية الصحية.

وسط هذا المشهد القاتم، تتزايد التساؤلات حول فعالية وزارة التنمية الاجتماعية، الجهة المسؤولة عن حماية الأطفال ورعايتهم في غزة.

تقول غزاله نصير، مسؤولة ملف الأسرة والطفولة في الوزارة، إنهم يعملون "ضمن إمكانيات شديدة المحدودية" لتقديم الدعم للأطفال المعرضين للخطر، بالتعاون مع مؤسسات محلية ودولية لتوفير الحليب والحفاضات والملابس.

لكنّها تُقرّ في الوقت نفسه بأنّ "إغلاق المعابر، وصعوبة الوصول إلى المناطق المتضررة، ونقص التمويل، وتكرار النزوح، كلها عوامل تُعقّد عمل الوزارة وتحدّ من قدرتها على تحديث بيانات المستفيدين أو ضمان وصول المساعدات إليهم."

من جهتهم، يرى الأهالي ومنظمات إنسانية أنّ ما تقدّمه الوزارة لا يتجاوز نطاقًا رمزيًا، إذ تقتصر المساعدات على مناطق محدودة يمكن الوصول إليها، بينما تظلّ الغالبية العظمى من الأسر النازحة خارج أيّ دعم فعلي.

وبينما تتباين التصريحات الرسمية والجهود الميدانية، تكشف الأرقام التي توثقها المؤسسات الحقوقية حجم الفجوة بين ما يُقال وما يحدث على الأرض، حيث تتحول المعاناة الإنسانية إلى مشهدٍ رقميّ يختزل مأساة آلاف الأطفال.

يقول علاء السكافي، مدير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، إنّ ما يجري في قطاع غزة "يتجاوز الأزمة الإنسانية إلى حدّ الإبادة الجماعية"، مشيرًا إلى أنّ أكثر من 20 ألف طفل استُشهدوا منذ بدء الحرب، وأكثر من 140 طفلًا توفوا نتيجة المجاعة وسوء التغذية.

يضيف: "نحو 40 ألف طفل فقدوا أحد والديهم، و18 ألفًا فقدوا كليهما، ما يعني أنّ آلاف الأطفال اليوم يواجهون مصيرًا غامضًا في غياب أيّ نظام حماية فعلي".

بدورها، تعمل جهات دولية على تقديم مساعدات إغاثية، منها الإمارات العربية المتحدة عبر عملية الفارس الشهم على تقديم مساعدات غذائية وصحية للأطفال والرضّع، تشمل طرودًا مخصّصة للمستشفيات ومراكز الولادة، وتعاونًا مع مؤسسات مثل كاريتاس وأرض الإنسان ومؤسسة عايشة.

تقول عطاف الحمران، مسؤولة لجنة المبادرات في العملية، إنّ "الهدف الأساسي هو حماية الأطفال وتوفير الحد الأدنى من مقوّمات الحياة لهم"، مشيرة إلى أنّ العملية تواجه تحديات معقّدة أبرزها القيود اللوجستية وإغلاق المعابر وصعوبة تحديد أماكن العائلات النازحة.

وفي موازاة الجهود الإغاثية، تبرز مبادرات رقابية تسعى لضمان نزاهة توزيع المساعدات وعدالتها. إذ تتابع مؤسسة الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان ملف المساعدات من زاوية مختلفة، بوصفها شريان حياة للفلسطينيين وميدانًا يتطلّب أعلى درجات الشفافية.

يقول المدير الإقليمي لـ "أمان" وائل بعلوشة إنّ "المساعدات الإنسانية يجب أن تبقى أداة للعدالة، لا وسيلة للابتزاز أو الثراء"، مؤكدًا أنّ الرقابة المجتمعية هي "صمام الأمان لضمان العدالة في التوزيع، لا سيما للفئات الأشدّ ضعفًا مثل الأطفال".

ويشير بعلوشة إلى أن عمل مؤسسة "أمان" لا يخلو من التحديات، فحجم المساعدات المتدفقة إلى غزة ضئيل مقارنة بالاحتياج الإنساني الهائل، في حين يعتري عملية التوزيع قدر من الضبابية وغياب الشفافية في بعض المؤسسات الإغاثية. 

ويوضح أن ضعف التنسيق بين الجهات الدولية والمحلية، وصعوبة الوصول إلى المستفيدين في المناطق المنكوبة، يضاعفان من صعوبة الرقابة، داعيًا إلى إنشاء قنوات معلنة للمعلومات ومعايير واضحة لتوزيع المساعدات، بما يضمن العدالة والإنصاف ويعزّز ثقة المواطنين بالعمل الإنساني.

في نهاية المشهد، تبقى أصوات الأطفال وبكاء الأمهات الشاهد الأصدق على مأساةٍ تتجاوز الحاجة إلى الحليب والدواء، إلى سؤالٍ أعمق عن معنى الأمان في زمنٍ بلا يقين.  ورغم أن التهدئة المرحلية تفتح نافذة أملٍ ضيقة، فإنّ الأطفال في غزة ما زالوا يبدؤون حياتهم في طوابير الانتظار، بين وعودٍ مؤجّلة وأحلامٍ مؤجلة بالحياة نفسها.