بعد أن خلعوا دروعهم: صحافيون يروون عزلتهم

بعد أن خلعوا دروعهم: صحافيون يروون عزلتهم

كان الصحافي مهند قشطة من غزة يقف في منتصف المخيم مرتبكًا، عاجزًا عن تصديق ما يسمعه. إشاعة انتشرت كالنار بين الخيام تقول إنه مستهدف من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وإن بقاءه في المكان قد يعرّض الآخرين للخطر. 

في ساعاتٍ قليلة، أخلى الجيران خيامهم، ثم عادوا يفرضوا عليه حدودًا غير مرئية: لا يدخل، لا يقترب، لا يتحدث. حاول أن يدحض الإشاعة لكنه فشل، وبعد ساعات من الترّقب عاد السكان إلى المخيم، لكنّهم منعوه من دخوله بحجة أنه صحافي، وأن وجوده قد يُشكِّل خطرًا على حياتهم، فتحول قشطة من راوي المأساة إلى أحد من يعيشها منبوذًا بين خيامها، فقط لأنه يحمل الكاميرا.

اليوم، ومع اقتراب صمت المدافع، ما زالت تلك التجربة تلاحق الصحفي قشطة، كأن الحرب تركت فيه أثرها الأعمق بعد أن وضعت أوزارها.

الخوف ازداد حين نشر صحافي عبري صورته مع عدد من زملائه محرضًا على استهدافهم، بعد استهداف الاحتلال أحد مراسلي قناة الجزيرة وزملائه. في تلك الليلة، طُرد مهند من مكان سكنه، وتعرّضت عائلته لمحاولة إخراجهم من خيمتهم، لكنهم تمسكوا بالبقاء، فاضطر إلى الاختفاء عن الأنظار لحمايتهم. 

يقول قشطة وهو يُحدِّق في صورته المنشورة: "أغلقت هاتفي، توقفت عن العمل، كنت خائفًا على أولادي. لكنّني عُدت بعد مدة، مضطرًا، فأصبحت أعمل وأنا قلق في كل لحظة".

لم يتوقف الأثر عنده، إذ باتت نظرات الناس وابتساماتهم العابرة تحمل معنى آخر. أصدقاء العائلة يمزحون: "ابتعدوا عنا، عندنا صحافي"، حتى مَن يصافحه يفعلها سريعًا ويغادر.

لم يكن النبذ استثناء على صحافيين بعينهم؛ بل صار واقعًا عاشه الصحافيون في غزة خلال النزاع، ولا تزال آثاره النفسية تطفو في علاقتهم بالناس حتى اليوم. كثير من الناس كانوا يرفضون الجلوس بجوار الصحافيين أو استضافتهم، خشية أن يصبحوا هدفًا جديدًا في حربٍ لم تميّز بين مدني وعدسة.

البعض يرى أن هذا النبذ الاجتماعي لم يكن قسوة ولا جحودًا، بل غريزة بقاء فرضتها أيام القصف والخوف. فالخطر كان حقيقيًا، والاستهداف المتكرر للصحافيين جعل الخوف مبررًا، إذ قُتل منهم 245 صحافيًا خلال الحرب الإسرائيلية التي استمرّت لعامين على قطاع غزة. وهكذا تحوّل الدرع الذي صُمم لحمايتهم إلى عبءٍ يُهدد حياتهم ويعمّق غربتهم بين الناس.

نائب نقيب الصحافيين في غزة، تحسين الأسطل، يؤكد أن تصرّفات الناس لا تنبع من عداء، بل من خوف مبرّر. يقول: "يجب تفهّم مخاوفهم، فقد مرّوا بتجارب قاسية. وأنا نفسي تعرّضت لمواقف مشابهة، لكنني أتفهّمها تمامًا".

ويضيف أن النقابة بدأت تلاحظ هذه الظاهرة بين صفوف الصحافيين، وتسعى إلى التعامل معها ضمن برامج الدعم النفسي والاجتماعي التي تُنفّذ بالتعاون مع جهات شريكة. ويوضح أن بعض الصحافيين باتوا يخفون هويّتهم المهنية أثناء النزوح أو التنقّل خوفًا من الرفض أو الطرد، وهو ما ينعكس سلبًا على قدرتهم في تغطية الأحداث بدقّة.

ويشير الأسطل إلى أن هذه الحرب، التي جعلت الصحافي "هدفًا" للاحتلال، فاقمت من هذا الخوف الجماعي، وحوّلت الصحافي في المخيلة العامة من "شاهد على الجريمة" إلى "سبب محتمل للكارثة". ومع ذلك، يرى أن ما يحدث لا يعني انقطاع الثقة بين الصحافيين والمجتمع، بل أزمة مؤقتة تفرضها الظروف القاسية للحرب.

يردف: "الدرع الذي نحمله اليوم لم يعد فقط لحمايتنا من الرصاص، بل حاجزًا بيننا وبين الناس؛ لكننا نحاول أن نعيد بناء تلك الثقة من خلفه".

الصحافية صافنياز اللوح لا تنسى المرة التي صرخت فيها سيدة داخل سيارة أجرة مطالبةً السائق بإنزالها فورًا: "انزلي من السيارة، بدك تموتينا! أنا نزحت من الموت وبديش أموت بسببك!" حاولت اللوح أن توضح أنها مصابة بنزيف في قدمها ولا تستطيع المشي، لكن السيدة أصرّت، وطُردت بالفعل من السيارة. 

لم تكن تلك الحادثة الأولى؛ فالركاب والسائقون يرفضون أحيانًا مجرد وجودها بينهم، فقط كونها ترتدي الدرع الصحافي. تقول بصوتٍ متعب: "أصبحت أخاف مواجهة الناس. لا أخلع درعي رغم الإهانات، لكنني أبكي كثيرًا بعد كل موقف، وأدخل في نوبة حزن طويلة. صرت أكره الخروج من مركز الإيواء الذي أقطن فيه، أخاف من نظراتهم أكثر من القصف نفسه".

المصور ياسر عدوان عاش تجربة قاسية، إذ يرفض معارفه استقباله أحيانًا، والسائقون يتجنبون التوقف له إن كان يرتدي الدرع. يقول: "كنا نغطي مهمة صحافية، وبعد الانتهاء خلعنا الدروع وانتظرنا سيارة تقلنا. لكن حين يرونا بالدرع يرفض السائقون التوقف. اضطررت مرات كثيرة للنزول في منتصف الطريق بطلب من الركاب. حتى صرت أُخفي ماهية عملي وأخبئ الدرع عن الأنظار".

أما الصحافية شروق شاهين، أيضًا عاشت التجربة نفسها، فقد نزحت عائلتها من شمال القطاع في بداية الأحداث الجارية إلى بيت صديق للعائلة في المحافظة الوسطى. لحقت بهم في اليوم التالي لتبيت معهم، لكن في تلك الليلة قُصفت عائلة الصحافي وائل الدحدوح.

ارتبك أصحاب البيت، فاستدعو والدها وقالوا له: "أهلًا بك، لكن ابنتك شروق هذه المرة الأولى والأخيرة لها معنا". غادرت الفتاة في صباح اليوم التالي، ولم تلتق بعائلتها بعدها إلا نادرًا، لدقائق معدودة، في خيمة نزوحها.

اليوم، وبعد أن تلاشت أصوات القصف، ما زالت تتذكّر تلك الليلة كأنها البارحة، تقول إن الحرب انتهت لكن نظرات الناس لم تتغير كثيرًا.

عادت شاهين إلى شمال غزة خلال وقف إطلاق النار المؤقت، لتستقر قليلًا مع عائلتها، قبل أن تُجبر على النزوح مجددًا إلى دير البلح وسط القطاع. هناك، تكرر المشهد نفسه: عائلة بعيدة، خيمة جديدة، وخوف متجدد من وجودها كصحافية في بيئة تخشى أن يكون قربها جريمة. 

تقول وقد اغرورقت عيناها: "حتى لقاءاتي مع عائلتي صارت في أماكن خارجية، لأنّ وجودي يُعد خطرًا. هذا الشعور يؤلمني أكثر من الحرب نفسها".

المختصة النفسية فلسطين ياسين توضح أنّ هذا الخوف الجماعي من الصحافيين نابع من "غريزة البقاء". فاستهداف الاحتلال المتكرر لهم جعل وجودهم في أي مكان مثار قلق، والخوف يتحول مع الوقت إلى تجنب أو رفض صريح، وهو سلوك دفاعي لا شعوري. 

تضيف فلسطين أن "النبذ الاجتماعي يترك أثرًا نفسيًا عميقًا على الصحافي؛ فهو لا يخاف فقط من القصف، بل من نظرة الناس أيضًا. يعيش عزلة مضاعفة، وإحساسًا بالذنب لأنه قد يعرّض غيره للخطر".

في غزة ما بعد الحرب، وبعد أن خلع الصحافيون دروعهم، لا تزال نظرات الناس تُذكّرهم بتلك الأيام. الكاميرا التي كانت تُوثّق الموت أصبحت شاهدة على عزلتهم، والدرع الذي كان يحميهم صار يرمز إلى المسافة التي فُرضت بينهم وبين من حاولوا الدفاع عنهم بالكلمة والصورة.

وبينما يتهيأ القطاع لمرحلة ما بعد الحرب، يحاول الصحافيون ترميم ما تكسّر في صورتهم وفي داخلهم. فالحرب لم تنتهِ تمامًا بالنسبة لهم؛ ما زال صداها يتردّد في الذاكرة، وفي كل نظرةٍ حذرةٍ تُذكّرهم بأنهم عاشوا الحرب مرتين: مرة تحت القصف، ومرة في عيون الناس.