ماذا عن حماية الكرامة في وسائل النقل؟

ماذا عن حماية الكرامة في وسائل النقل؟

"لم أعد أشعر أن الشارع مكان آمن" بهذه الكلمات اختصرت أمل علاء (*)، 45 عامًا، أرملة وأم لثلاثة أطفال، تجربتها. في صباحٍ بدا عاديًا، استقلت عربة يجرها حمار بحثًا عن مؤن لعائلتها. لكن مجموعة من الشبان قطعوا رحلتها بسيل من التعليقات المُهينة. لم يكن الموقف مجرد كلمات عابرة؛ بل شرخًا عميقًا جعلها تتخذ قرارًا مؤلمًا وهو إرسال ابنها بدلًا منها رغم صغر سنّه.

تقول السيدة بصوتٍ متعب: "منذ ذلك اليوم، لم أعد أحتمل الخروج، أفضّل أن أتحمل القلق على ابني على أن أتعرض مرة أخرى لتلك الإهانات".

في دير البلح وسط قطاع غزة، وجدت بسمة فريد (*)، 25 عامًا، طبيبة أسنان في مرحلة الامتياز، نفسها يوميًا أمام معادلة مهينة. تضطر للجلوس في عربة مكشوفة، عابرة شوارع مزدحمة، لتنهال عليها التعليقات: "طبيبة أسنان تركب حمارًا!" أو "يا دكتورة، تعالي اركبي معنا على الموتور!".

لم يكن المشهد مضحكًا لها كما أراد "المتحرشون" أن يصوّروه، بل جارحًا. بعد أسابيع من الصبر، اتخذت بسمة قرارًا آخر: المشي لمسافات طويلة على قدميها. قالت: "رغم التعب والإرهاق بالمشي تحت أشعة الشمس، شعرت أنّ خطواتي المؤلمة أقلّ قسوة من كلماتهم".

في باص "فلوكس فاجن" يقلّ ما يزيد عن سعته مرتين، وجدت مها سالم (*)، 32 عامًا، نفسها محشورة خلال عودتها من دير البلح إلى النصيرات وسط القطاع، بالكادّ تستطيع تحريك ذراعيها. الركاب كانوا مرصوصين بجانب بعضهم البعض، حتى أن ظهورهم التصقت ببعضها. 

تقول: "كنت أشعر بالاختناق من شدة الازدحام، وفجأة بدأ أحد الشبان يطلق عبارات ساخرة تتعلق ببدانة جسدي، يرددها بصوت عالٍ أمام الجميع وكأنني مادة للتندر".

لم يجرؤ أحد من الركاب على الرد، واكتفى معظمهم بالصمت أو بابتسامة باهتة. تضيف سالم: "انهالت نظرات أكثر من 16 فردًا عليّ، تمنيت لو أن الأرض انشقت وابتلعتني. لم يكن بوسعي النزول ولا حتى الالتفات، كان جسدي محاصرًا بالكلمات أكثر من الأجساد".

أما فاطمة فؤاد (*)، وهي تعمل ممرضة في مستشفى ميداني وسط قطاع غزة، فكانت رحلتها بعد نوبات العمل الطويلة أصعب من ساعات الطوارئ ذاتها. فوسط ندرة المواصلات، اضطرت للاعتماد على سيارات خاصّة مزدحمة وغير مرخصة. 

في إحدى الليالي، باغتها السائق بسخرية: "ما الذي تفعله فتاة في المستشفى في هذا الوقت المتأخر؟" قبل أن يضيف بابتسامةٍ ماكرة وبتلميحٍ مُريب: "نحن نعرف ما يحدث في المستشفيات". لم تكن الكلمات مجرد استفزاز، بل أشبه بـ "وصمة" ألقت بظلالها الثقيلة على فاطمة. 

تقول وقد بدَت عليها ملامح الانزعاج الشديد: "ذلك الموقف تركني مثقلة باليأس والإحباط، كأنّ الحرب لا تكفي، حتى الطريق إلى البيت صار ساحة جديدة للمعاناة".

في شوارع غزة المزدحمة، لم يعد الخوف من القصف وحده ما يثقل خطوات النساء. هناك خوف آخر، أكثر خفاءً، يتسلّل عبر الكلمات الجارحة والنظرات المتفحصة، ليحوّل التنقل اليومي إلى اختبار جديد للكرامة، إذ تعكس قصص التحرش اللفظي الفردية ظاهرة أوسع وثّقتها دراسة حديثة نُشرت عام 2025 في مجلة "المنتدى الدولي لدراسات المرأة"، تناولت أشكال العنف المتقاطع ضدّ النساء في غزة خلال النزوح. 

وأشارت الدراسة إلى أنّ النساء يواجهن مضايقات وتحرشًا لفظيًا متكررًا أثناء التنقل والإقامة في أماكن النزوح المكتظة، معتبرة أنّ هذه السلوكيات ليست مجرد تجاوزات عابرة، بل جزء من أنماط أوسع من العنف القائم على النوع الاجتماعي في بيئات الحرب والاضطراب.

توضح الأخصائية النفسية سما قاسم أنّ التحرش اللفظي لا يترك ندوبًا على الجسد، لكنّه يترك جروحًا عميقة في النفس. تقول: "هذه الانتهاكات تمثل عنفًا مزمنًا، تتضح آثاره بمرور الوقت. فالقلق المستمر والتوتر والخوف من الأماكن العامة تدفع النساء إلى دوامة من العزلة الاجتماعية، وقد تتحول إلى اضطرابات مثل الاكتئاب المزمن أو القلق المرضي".

وتشير قاسم إلى أنّ بعض المنظمات وفّرت مساحات آمنة وجلسات توعية محدودة، لكنّها غير كافية ومتقطعة بسبب النزوح وتدمير البنية التحتية، ما يترك الكثير من النساء بلا دعم حقيقي يساعدهن على كسر دائرة الصمت أو مواجهة هذه الانتهاكات.

وترى قاسم أنّ الظروف الحالية تجعل الأمر أكثر قسوة، ففي ظلّ الحرب وانهيار شبكات الدعم، يُضاف التحرش إلى طبقات أخرى من الصدمات؛ ما يعيق قدرة النساء على التعافي والشعور بالأمان.

لكن معاناة النساء لا تتوقف عند حدود التجربة النفسية، بل تمتد إلى القانون. يوضح المحامي محمود الشرقاوي أنّ القانون المطبّق في غزة، وهو قانون العقوبات رقم 74 لسنة 1936، لا يتضمن نصًا صريحًا يجرّم التحرش. ويقول: "صحيح أن هناك مادة قانونية تعاقب على (الإشارة أو التلميح المنافي للحياء)، لكنها فضفاضة وغير كافية لمواجهة الظاهرة".

يضيف الشرقاوي: "ازدحام المواصلات وتضرر البنية التحتية يجعل مساءلة المتحرشين شبه مستحيلة. النساء يجدن أنفسهن بلا حماية قانونية حقيقية، والفراغ التشريعي يزيد من تفاقم المشكلة"، مطالبًا بسنّ قانون مستقل يُحدِّد التحرش الجنسي بجميع أشكاله: اللفظية والجسدية والإلكترونية، ويضع عقوبات رادعة وآليات واضحة للإبلاغ.

التناقض الصارخ يظهر حين نقارن الواقع القانوني في قطاع غزة بالمواثيق الدولية، إذ تضمن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة (CEDAW)، التي صادقت عليها فلسطين، حق المرأة في الحماية من العنف والتحرش في الأماكن العامة والخاصة. 

كما يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات حقوق الطفل على حق النساء والفتيات في التنقل بأمان وحرية؛ لكن على الأرض، تظلّ النساء في غزة عالقات بين نصوص لا تجدّ طريقها إلى التطبيق وواقع يضاعف أعباءهن اليومية.

التحرش اللفظي في غزة اليوم ليس مجرد كلمات عابرة؛ إنه طبقة جديدة من الألم تضاف فوق قسوة الحرب وفقدان البيوت والأحبة، ونساء يجدن أنفسهن في معركة غير مرئية، معركة لا تُخاض بالقنابل بل بالكلمات، لكنها تترك ندوبًا لا تقلّ قسوة.

وفي غياب قانون يحميهن أو بيئة توفر لهن أمانًا، تبقى كل رحلة في الشارع أو على ظهر عربة أو داخل سيارة مزدحمة مغامرة محفوفة بالخوف، حيث تتحوّل تفاصيل الحياة اليومية إلى كابوس لا ينتهي.

 

(*) أسماء مستعارة