ما سر تزايد الولادة القيصرية في غزة؟

ما سر تزايد الولادة القيصرية في غزة؟

ما الذي يدفع آلاف النساء في غزة إلى الولادة القيصرية رغم رغبتهن في الولادة الطبيعية؟ الحرب، المجاعة، وانهيار الرعاية الصحية تترك أجسادهن في مواجهة خيارات ضيقة، غالبًا ما تنتهي بجراحةٍ مؤلمة بدلًا من ولادةٍ آمنة.

كانت نور حسين، وهي في السادسة والعشرين من عمرها، واحدة من هؤلاء النساء. دخلت غرفة الولادة على أمل احتضان طفلتها الأولى، لكنّ ما واجهته هناك لم يكن كما توقّعت.

تستلقي نور، البالغة من العمر 26 عامًا، على فراشها غرب مدينة غزة بوهنٍ ظاهر. عيناها نصف مغمضتين من شِدّة الإرهاق، وحركتها بطيئة مترددة، تضع يدها برفقٍ على موضع الجرح إثر عملية ولادتها القيصرية، تتحسس ألمًا لا يزال طازجًا.

تستعيد حسين ذاكرة المخاض التي قضتها وهي جائعة، منهكة، حاولت أن تدفع صغيرتها للخارج، لكن جسدها خذلها. تقول بعينين غائرتين: "المجهود كان عنيفًا عليَّ، أعطوني طلقًا صناعيًا بجرعات كثيرة حتى استنفدت كل الجرعات، لكني لم أُظهِر استجابة ولا طاقة، حتى كدّت أفقد الجنين".

وأضافت والأرق بادياً على عينيها: "كنت أدفع بكل طاقتي، لكن الجوع أنهكني. قالوا لي: إما القيصرية أو خسارة الجنين". تلاشى أمل الولادة الطبيعية، ولم يبقَ أمام الطبيب سوى خيار واحد: الجراحة القيصرية". وافقت، لأنّها لم تملك خيارًا آخر. فوُلدت طفلتها البكر في مستشفى الصحابة وسط مدينة غزة، بوزن لا يتجاوز اثنين كيلو وبضع غرامات، بعد معاناةٍ مريرة. 

خسرت حسين العديد من الكيلوغرامات خلال شهور حملها التي قضت معظمها في ظروف المجاعة التي تجتاح قطاع غزة، فلم تجد السيدة طعامًا صحيًا يكفيها حتى أُصيبت بـ سوء التغذية. وفي الشهر الثامن من حملها، تعرَّض البيت المجاور لمسكنها للقصف؛ ما عرض حياتها للخطر، لكنّها نجت لتحمل بين ذراعيها بعد أيام طفلة هزيلة.

وبعد الولادة لم يكن الأمر أفضل حالاً فحتى الحليب جفَّ في صدرها، واضطرت لتغذية رضيعتها بالحليب الصناعي النادر توفره في الأسواق. تُردف: "في إحدى المرات، اضطررتُ لشراء عبوة منتهية الصلاحية، مما تسبب بارتفاع حرارة المولودة".

لكنّ نور ليست الوحيدة. آلاف النساء الحوامل في غزة يتقاسمن المأساة ذاتها: أجسادٌ أنهكها الجوع المزمن حتى عجزت عن بذل أي مجهود بسيط أثناء الولادة؛ ما اضطرهن إلى اللجوء لخيار الولادة القيصرية وسط ضعف الرعاية وقلّة الإمكانات ونُدرة المستلزمات في مستشفيات القطاع نتيجة إحكام الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة.

تشير بيانات صادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 55,000 امرأة حامل في غزة تفتقرن إلى الرعاية الطبية اللازمة، فيما تعاني 90% منهن من سوء تغذية يهدد الحمل والولادة معًا. ووفقًا لتقارير طبية، تُجرى 27% من الولادات عبر عمليات قيصرية بسبب ضعف قدرة الأجساد المنهكة على التحمل؛ ما يعكس حجم الخطر الذي يحيط بالأمهات وأطفالهنّ.

لماذا ترتفع نسبة الولادات القيصرية في غزة خلال الحرب؟

بحسب أطباء الولادة في مستشفيات غزة، يعاني معظم النساء الحوامل من سوء تغذية حادّ وفقر دم ونقص الحديد؛ ما يجعل الولادة الطبيعية شبه مستحيلة. وتؤدي ظروف الحصار والمجاعة وانعدام الإمكانات الطبية إلى اللجوء المتزايد للجراحة القيصرية.

منذ اندّلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023، وإغلاق المراكز الصحية وتدمير المستشفيات. تواجه ثلث الحوامل  مخاطر صحيّة حادّة بسبب الحمل، بينما يعاني ثلث آخر من تدّاعيات المجاعة فلا مكملات غذائية، ولا فحوصات دورية، ولا حتى وجبات تكفي لإبقائهن على قيد الحياة.

وتُظهِر إحصاءات الصحة العالمية أنّ 130 طفلًا يولدون يوميًا، 27% منهم عبر عمليات قيصرية، بينما يعاني 20% من نقص الوزن أو مضاعفات صحية خطيرة.  

تتناقض السياسات الإسرائيلية بحقّ المرضى بغزة مع المواثيق الدولية، وفقًا لما تُشير إليه منظمات حقوقية، خصوصًا ما ورد في اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر استهداف المدنيين وتمنع حرمانهم من الغذاء والدواء. فـ الحصار المفروض على غزة يحول دون دخول المستلزمات الطبيّة، بينما تستمر الغارات في تدّمير البنية التحتية الصحيّة.

أسماء النجار، 33 عامًا، أم لثلاثة أطفال، ولدت طفلها الرابع قبل شهرين في ظروفٍ مأساوية. أنجبت أبنائها الثلاثة سابقًا ولادة طبيعية، لكنّ هذه المرة، بعد ساعات من المحاولات الفاشلة، استسلم جسدها المنهك فذهب للخيار الأثقل على قلبها وهو الولادة القيصرية.

تقول النجار: "لا أُفضل القيصرية أبدًا، لكنّي كنت أعاني من سوء تغذية وهزال ودوار، حتى أنني بالكادّ استطعت الوصول إلى المستشفى". وُلِد طفلها بوزنٍ أقلّ من الطبيعي فاحتاجت أن توفر له الحليب الصناعي رغم غلائه الباهظ وسوء أوضاعهم المادّية جرّاء موجة الغلاء الفادحة التي تضرب أسواق قطاع غزة منذ إغلاق إسرائيل للمعابر في مارس الماضي.

لكنّ يسرى جودة، 24 عامًا، لم تكن محظوظة كغيرها. تعرضت لـولادة مبكرة قيصرية في مستشفى العودة شمال قطاع غزة بعد تدهور حالتها الصحية بسبب نقص الغذاء. تقول بصوتٍ مبحوح: "كنت أحاول الحفاظ على جنيني، لكن نصف وجبة في اليوم لا تكفي. فقدته في النهاية".

طبيب النساء والولادة، محمد الرقب، يؤكد أنّ معدلات الولادة القيصرية ارتفعت بنسبة 30% منذ بداية الحرب. يقول: "الحوامل يعانين من فقر دم حادّ، ونقص كبير في الحديد، ودوخة متكررة، مما يفقدهن القدرة على الدفع أثناء الولادة".

ويضيف الرقب أنّ الأطباء يضطرون للانتظار طويلًا في غرفة العمليات على أمل أن تتمكن الأم من الولادة الطبيعية، لكن الجوع والإرهاق يحولان دون ذلك.  يتابع: "نتيجةً لذلك، تفقد بعض النساء أجنتهن أثناء الولادة أو يلدن وسط ظروف صحيّة قاسية.

الأوزان المنخفضة للمواليد – أقلّ من 2.5 كيلوغرام – تثير مخاوف طويلة الأمد حول نموهم الجسدي والعقلي. لكن الأسوأ، وفقًا للرقب، هو حالات الحوامل اللواتي يتعرضن للإصابات بفعل القصف، فيصلن إلى المستشفى في حالةٍ حرجة، مما يدفع الأطباء لإجراء ولادات قيصرية طارئة في ظلّ شُح الإمدادات الطبية، من مضادات حيوية وشاش معقم وحتى المسكنات الأساسية.

وبحسب تقارير لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة، فإنه خلال النصف الأول من عام 2025 سُجل 1700 حالة ولادة، وسُجل 2600 حالة إجهاض أي ما نسبته 15%، وأُدخل 2535 رضيعًا إلى العناية المركزة، وسجل 67 حالة تشوه خلقي، وولد 1600 طفل بوزنٍ أقل من الطبيعي بمعدل 9%، و1460 ولادة مبكرة بمعدل 9%.

أمام هذا الواقع تمتد معاناة النساء الحوامل إلى ما بعد الولادة. رزان سليم، 19 عامًا، لم تكن تعلم أنّ ولادة طفلها الأول ستتحوّل إلى حادثة مرعبة. فبعد ساعات من المعاناة في غرفة الولادة انتهى الأمر بجراحة قيصرية، لكنّ المأساة لم تتوقف أبدًا. تقول وهي تستذكر بألم: "قالوا لي إنّها ساعة منسية، لكنّ أنفاسي كادت تنقطع وأنا أحاول الدفع. لن أعيش هذه التجربة مرة أخرى". 

وعلى إثر ما عايشت، تعاني سليم من اكتئاب ما بعد الولادة، وتخضع لجلسات علاج نفسي عبر الإنترنت مع أخصائية خارج غزة؛ لكن الأوضاع المأساوية تزيد حالتها سوءًا فتشعر أحيانًا بعدم الرغبة في الاقتراب من طفلها بينما الأفكار السوداء لا تغادر رأسها.

اختصاصيون نفسيون يحذرون من تفشي الاكتئاب بين الأمهات الجدد في غزة، بسبب الظروف المعيشية القاسية وانهيار النظام الصحي. الأعراض تتراوح بين تقلّبات المزاج الحادّة، والقلق، والبكاء المتواصل، وصولًا إلى العجز عن رعاية الطفل.

في غزة، باتت الولادة خطرًا، والغذاء شحيح، والرعاية الصحية حلمًا بعيدًا. تواجه النساء المستحيل بين إنجاب دون رعاية كافية وإرضاع أطفالهن وسط مجاعة تُهدد الجميع. تتزايد الولادات القيصرية كخيار اضطراري لأجساد أنهكها الحصار والجوع، فيما تظلّ الأمهات الجائعات وحدهنّ في وجه الموت البطيء. والسؤال المؤلم يظلّ معلقًا: هل ينتظر العالم موت الأمهات كما ينتظر موت الأطفال جوعًا؟