غزة: الطاقة البديلة والصراع على الحياة

غزة: الطاقة البديلة والصراع على الحياة
غزة: الطاقة البديلة والصراع على الحياة

يقف إبراهيم خليل (49 عامًا) فوق سطح منزله، محاطًا بشظايا الحجارة التي تناثرت بعد قصفٍ طال بيتًا مجاورًا. الألواح الشمسية التي كانت توفر له ضوءًا خافتًا ومصدر رزقٍ وحيدًا لم تسلم من الدمار. حاول إصلاحها، لكنّ الزجاج المتشقق والخلايا المحطمة لم تترك مجالًا للإصلاح.

"هذه الألواح كانت نافذتنا الوحيدة على الحياة"، يقول خليل، جالسًا على حجرٍ صغير بعد أن أُصيب بدوارٍ من هول الصدمة. نقطة الشحن التي أدارها أسفل منزله، والمُعتمدة على تلك الألواح، كانت تُدرّ عليه دخلاً بسيطًا في هذه الحرب. لكن الآن، خسر مصدر رزقه واتصاله بالعالم الخارجي في آنٍ واحد.

في قطاع غزة الذي يعيش تحت حصارٍ متواصل جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ عشرين شهرًا، تحوّلت نُظم تشغيل الطاقة عن طريق الألواح الشمسية من حلٍ جزئي لأزمة الكهرباء إلى مصدر رئيسي للطاقة. 

قبل الحرب، كان سكان القطاع يعتمدون على تلك الألواح بنسبة لم تتجاوز 20%، وفقًا لدراسةٍ نشرتها دورية "الطاقة والاستدامة والمجتمع". لكنّ مع انقطاع التيار الكهربائي بالكامل منذ بداية الحرب، أصبحت هذه الألواح المصدر الوحيد للطاقة للكثير من مناحي الحياة منها تشغيل الأجهزة الطبيّة في المستشفيات والنقاط الطبيّة وغيرها من المجالات الأخرى. 

أما العامة من الناس يستخدمونها عادةً لتشغيل الغسالات البسيطة ومراوح الهواء الصغيرة وشحن الأجهزة الالكترونية كالهواتف والبطاريات وغيرها لتوفير إنارة بسيطة في ظلام الليالي الطويلة.  

غير أنَّ الحرب لم تترك حتى تلك الأنظمة البديلة، فوفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، دُمِّر أكثر من 4000 نظام لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية، بما في ذلك أنظمة كانت تُستخدم في المستشفيات ومحطات تحليّة المياه. وتُشير سلطة الطاقة إلى أنّ 90% من أنظمة الطاقة الشمسية في القطاع تضرَّرت، بخسائرٍ تُقدَّر بأكثر من 200 مليون دولار.

لم يكن خليل الوحيد الذي اضطر لدفع ثمنٍ باهظ لإعادة بناء مصدر رزقه، فبعد فشل محاولات إصلاح الألواح المُدّمَرة، اضطر لشراء ثلاثة ألواح جديدة بسعر 4000 دولار، بعد أن كان سعر اللوح الواحد قبل الحرب لا يتجاوز 400 دولار.

"اضطررت للاستدانة لدفع نصف المبلغ"، يقول الرجل، بينما يُشرِف على تركيب الألواح الجديدة، التي استغرقت وقتًا طويلًا بسبب نقص المعدات وارتفاع الأسعار.

وبعد تركيب ألواح الطاقة الجديدة لم يعد عمله يقتصر على شحن الهواتف فقط؛ فهو يُدير أيضًا شبكة إنترنت تُغطي جزءًا من شارع الجلاء وسط مدينة غزة، فأصبح قلقه على الألواح مضاعفًا لأنَّ تلفها أو تضررها يعني انقطاع الخدمة عن عشرات العائلات؛ ما سيدفعه لتحمُّل عبء مالي إضافي لم يكن في الحسبان؛ لكنّه مع ذلك يستمر في عمله هذا أمام قلّة الخيارات الأخرى.  

أما وسام نصار، الذي نزح إلى مخيم مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة، فقد اشترى لوحًا شمسيًا في بداية الحرب مقابل 800 دولار، بالإضافة إلى بطاريات ومعدات تكلفت 600 دولار، لإنشاء نقطة شحن أمام خيمته. 

"لم أستعمل الطاقة الشمسية قبل الحرب؛ لكنها أصبحت بديلًا ضروريًا"، يقول نصار الذي تعرَّض لوحه الشمسي للتلف بعد قصفٍ قريب، واضطر بعدها لدفع 100 دولار لقاء إصلاحه، ومع ذلك انخفضت قدرته التشغيلية إلى النصف.  

وفي ظلَّ نقص قطع الغيار، يلجأ فنيو الصيانة إلى حلولٍ بدائية. محمد عبد الرحمن، أحدّ الفنيين المُتخصصين في إصلاح الألواح الشمسية، يوضح أنهم يجمعون القصدير من الألواح التالفة لإعادة استخدامه في عمليات لحام الألواح. يقول: "إذا كان اللوح يُولِّد 320 واطًا، فإنّه بعد الإصلاح قد لا يُنتج أكثر من 150 واطًا".  

يُردف عبد الرحمن: "عملية توليد الكهرباء من الشمس تبدو بسيطة نظريًا فهي عبارة عن ضوء الشمس يحمل فوتونات تصطدم بالخلايا الكهروضوئية فتُنتج تيارًا". لكنه يستدرك أنّه حتى هذه العملية البسيطة تُواجه تحدّيات في قطاع غزة ناجمة عن الحرب ونقص المواد الأساسية والاضطرار للمُخاطرة وإعادة تدوير مواد أخرى.

وعلى الرغم من أنَّ الطاقة الشمسية تُعتبر مصدرًا نظيفًا مقارنةً بالوقود الأحفوري، إلا أنَّ لها تأثيرات بيئية سلبية، خاصّة في ظلّ الظروف القاسية التي تعيشها غزة بفعل تدّاعيات الحرب والقذائف المتواصلة. 

المختص البيئي نزار الوحيدي يوضح أنَّ الألواح الشمسية نفسها لا تُنتِج انبعاثات ضارة، لكن البطاريات المستخدمة لتخزين الطاقة تحتوي على الرصاص، الذي ينبعث منه غاز سام في حال تلفها أو تعرضها للضرر جرّاء عمليات القصف الإسرائيلية المستمرة. "عندما يتبخر غاز ثاني أكسيد الرصاص لمسافة مترين، فإنّه يلوث التربة والمياه"، يقول الوحيدي.  

وفي ظلّ غياب مراكز إعادة تدوير آمنة، تتحوّل البطاريات التالفة إلى نفايات خطرة؛ ومع تدمير آلاف الأنظمة الشمسية، أصبحت أعداد كبيرة من هذه البطاريات الخاصة بالمنازل والمؤسسات على حدٍ سواء مُبعثرة تحت الأنقاض؛ الأمر الذي يُهدِّد بزيادة التلوث على المدى الطويل.

يترتب على القصف الإسرائيلي الذي يستهدف أنظمة الطاقة الشمسية في قطاع غزة أضرار بيئية وقانونية خطيرة. قانونيًا، يُعد هذا انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، وخاصةً بروتوكول جنيف الأول الذي يحظر إلحاق أضرار واسعة بالبيئة. بالإضافة إلى ذلك، تُخالف هذه الأفعال اتفاقيات دولية مثل اتفاقية بازل للنفايات الخطرة، وخرقاً للحقَّ في بيئةٍ صحيّة بموجب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

من الناحية الاقتصادية، يرى الخبير أحمد أبو قمر أنّ الطاقة المتجددة أثبتت جدواها في قطاع غزة إبان الحرب القائمة رغم تكلفتها العالية. ويقول: "خلقت هذه الأنظمة فرص عمل اضطرارية نتيجة الوضع الراهن كنقاط الشحن، لكنّها تبقى محدودة مقارنة بالاستثمار المطلوب". 

وقبل اندّلاع الحرب، كان يوجد في قطاع غزة حوالي 12,400 نظام شمسي، وفقًا لتقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، بالإضافة إلى 655 لوحًا في منطقة لا تتجاوز ميلًا مربعًا.  

يدعو أبو قمر إلى جعل الطاقة المتجددة أولوية في إعادة الإعمار بعد الحرب، يوضح قائلاً: "لأنها ليست رفاهية، بل ضرورة للبقاء". لكن في الوقت الحالي، يبقى السؤال: كيف يمكن للكثير من أصحاب نقاط الشحن عبر نُظم الطاقة الشمسية أن يحافظوا على هذا المصدر الوحيد للطاقة بينما القصف مستمر، والأسعار ترتفع، والبدائل تنفد؟  

تحت أشعة الشمس نفسها التي تمنحهم طاقةً مؤقتة، يواصل الغزيون البحث عن حلول في ظلّ حربٍ لا تترك لهم خيارات كثيرة. الألواح الشمسية، رغم هشاشتها، أصبحت رمزًا لنمط حياة مختلف: نمط اضطراري ووحيد ضدّ العتمة، ضدّ العزلة، وربما ضدّ اليأس نفسه.

 

موضوعات ذات صلّة:

عتمة الحرب تطارد غزة.. ألواح الطاقة الشمسية "لم ترحمهم"

نور يكسر عتمة الإبادة.. الغزي حمد يصلح ألواح طاقة شمسية

الاحتلال يُدمّر أكثر من 4 آلاف منشأة مزودة بالطاقة الشمسيّة في غزة

باهظة الثمن وشحيحة.. نُدوب الحرب تُشوّه ألواح الطاقة الشمسية بغزة