لم يكن المُزارع الفلسطيني عدلي فارس، البالغ من العمر 54 عامًا، يتوقع أن تصبح أرضه وكل ما زرعه فيها بيديه مجرد حكاية يرويها بين أنقاض منزله يومًا ما، بعد نزوحه من منطقة ميراج غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
قبل أشهر، كان يقف فارس بين خمس دونمات من الطماطم، ودونمين من الفلفل البلدي، وآخرين من الشمام والبطيخ، كلها على وشك القطاف. لكنّ القصف الإسرائيلي أجبره على ترك كل شيء خلفه، حاملاً معه فقط ذكريات سنوات من العمل الشاق.
"زراعة الدونمات العشرة لم تكن سهلة، ثمانية منها استأجرتها، وكل دونم كلفني أكثر من 35 ألف شيكل، أما الشمام فكان الأغلى، تجاوزت تكلفته 50 ألف شيكل للدونم الواحد"، يقول فارس بصوتٍ يختلط فيه الغضب بالحسرة.
على مدى 35 عامًا، ظلّ هذا المزارع يعمل في الأرض، يتحدّى تقلّبات الطبيعة والسياسة في هذا البلد المحتل، لكنّه لم يجد أمام الحرب الإسرائيلية الحاليّة خيارًا سوى النزوح مع عائلته المكونة من تسعة أفراد إلى دير البلح، تاركًا وراءه ليس فقط المحاصيل، بل أيضًا 12 ألف دولار خسارتها في الأغنام والحَمام التي كانت مصدر دخل إضافي.
ونتيجة لذلك؛ انضمّ فارس وعائلته وعماله إلى صفوف العاطلين عن العمل في قطاع غزة الذي تجاوزت فيه البطالة 80%، وتجاوز فيه معدّل انعدّام الأمن الغذائي الـ 96%، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
بعد استئناف القتال في مارس الماضي بعد وقف إطلاق نار مؤقت جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ عشرين شهرًا، شقّت إسرائيل محور موراج العسكري، على بُعد ثماني كيلومترات فقط من الحدود المصرية، فقسَم مدينة رفح البالغة مساحتها 64 كيلومتراً مربعاً عن باقي قطاع غزة.
لم يكن محور "موراج" مجرد خسارة جغرافية، بل ضربةٌ موجعةٌ للقطاع الزراعي، الذي يُغذي عشرات الآلاف من السكان. رفح، المعروفة بتربتها الخصبة وإنتاجها الوفير من الطماطم والفلفل والبصل؛ أصبحت قُبيل موسم الحصاد بأيام الأراضي الزراعية فيها مُحرّمة على مزارعيها.
وعلى إثر ذلك؛ الأسواق خلَت من المحاصيل، بينما ارتفعت الأسعار إلى مستوياتٍ خيالية. أمّا النازحون، الذين ظنّوا أنّ عودتهم مسألة وقت، واجهوا واقعاً جديداً: حدوداً عسكرية تَحول دون الوصول حتى إلى الذكريات. في غزة التي تعاني أصلاً من المجاعة، صار كل محصول يُحرم منه المزارعون خطوة أخرى نحو تفاقم المأساة الإنسانية.
يقبع المزارع زكريا ظهير، في الأربعينيات من عمره، تحت خيمة من النايلون في منطقة القرارة شرق خانيونس. بعد أن أصبحت العشرة دونمات من أرضه في منطقة موراج التي كانت مزروعة بالبندورة والخيار والباذنجان والزهرة والملفوف، خراب وتحوّلت إلى أرضٍ محروقة.
"لم أستفد إلا من أربع قطفات من الباذنجان، وثلاث من الخيار، قبل أن أنزح وخسرت الباقي كلّه"، يقول ظهير، ويردف بحزنٍ بالغ: "كل دونم كلّفني أكثر من 15 ألف شيكل، دفعتُها نقدًا". لم تكن خسارة هذا الرجل مادية فحسب؛ بل خسر عمله في مهنة الزراعة وهي مهنته الوحيدة منذ عشرين عامًا وقد ورثها عن أبيه جيلاً بعد جيل.
ظهير واحد من بين 2500 مزارع دُمرت أراضيهم في موراج بعد الاجتياح الإسرائيلي في أبريل 2025، والذي أفقدَ قطاع غزة ما بين 55% إلى 60% من إنتاجه الزراعي جملةً واحدة، وفقًا لعبد الله أبو شنب، ممثل لجنة المزارعين في رفح.
تمتد منطقة موراج بين محافظتي خانيونس ورفح، وتضمّ ثلاث مناطق زراعية رئيسية: مصبح وقيزان النجار ورفح الغربي. تربتها الطينية الخصبة ومخزونها المائي الجوفي جعلتاها واحدة من أكثر المناطق إنتاجية في القطاع.
يُردف أبو شنب: "هذه المنطقة كانت تمدّ غزة بمعظم خضارها، لكننا خسرناها بفعل السيطرة الإسرائيلية، فأصبحت الخضار المتوفرة الآن محدودة وأسعارها خيالية".
المهندس الزراعي عرفات ديب يتفق مع سابقه ويقول: "هذه الأرض لم تكن مجرد قطعة تراب، بل كانت بمثابة مستودع حيوي للخصوبة"، مشيراً إلى أنَّ التربة الطينية في المنطقة كانت غنيّةً بالمواد الغذائية التي جعلت النبات ينبت قوياً وسليماً دون عناء.
"المياه هنا كانت عذبةً ونقية، لأنّ المخزون الجوفي كبيرٌ ومتجدد"، يضيف، ذاكراً كيف كانت المنطقة تُنتج تشكيلةً متنوعةً من المحاصيل، من البطيخ والشمام إلى البطاطا والباذنجان والخيار والبندورة، كلها كانت تنمو بوفرةٍ كأنَّ الأرض تتبارى في العطاء.
الجرافات الإسرائيلية حوّلت المنطقة الزراعية في موراج إلى مساحاتٍ رمادية. "هذا ليس عملاً عشوائياً"، يؤكد ديب، "بل هو حلقةٌ في سلسلةٍ ممنهجة لضرب الزراعة في مقتل، لأنّ من يُسيطر على موراج يسيطر على سلة الغذاء في غزة".
ويكمل ديب حديثه عن الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، ليس فقط كمصدر للغذاء، بل أيضاً كمحركٍ للاقتصاد الزراعي. "هنا كان يعمل الآلاف من العمال والمزارعين، وكانت الأرض تدرّ عليهم رزقاً يكفي ليعيشوا بكرامة"، يقول ديب، مشيراً إلى أن الثروة المائية في المنطقة كانت "كنزاً لا يعوّض"، فالمياه العذبة بهذه الجودة والوفرة نادرةٌ في بقية أنحاء القطاع.
أما عن كمية المحاصيل التي كانت تجود بها الأرض، يذكر ديب الأرقام التي تحوّلت الآن إلى مجرد ذكرى: "دونم البندورة كان يُنتِج حوالي 15 طناً، وكنا نزرع هذا الصنف على مساحة لا تقلّ عن 20 ألف دونم، فنحصل على 300 ألف طن من المحاصيل؛ لكننا الآن فقدناها جملةً واحدة".
الباحث الحقوقي في مركز الميزان لحقوق الإنسان باسم أبو جري يتحدّث عن انتهاكاتٍ إسرائيلية لا تتوقف في قطاع غزة. "القانون الدولي يحظر تدمير الممتلكات المدنية، بما فيها الأراضي الزراعية، لكنّ ما يحدث في موراج هو استهدافٌ مباشر لقدرة الناس على البقاء"، يقول.
ويشير أبو جري إلى أنّ تدمير الزراعة يفاقم أزمة الغذاء، خاصّة مع ندرة الخضار وارتفاع أسعارها إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. "هذا ليس مجرد تدمير للأرض، بل تدميرٌ لصحة الناس، خاصّة المرضى والجرحى الذين يعتمدون على غذاء صحي لم يعد موجودًا".
في غزة، حيث كانت موراج يومًا ما مصدرًا للرزق والغذاء، لم يتبقَّ سوى قصص المزارعين الذين يحملون في جيوبهم فواتير البذور التي لم تُثمر، وفي قلوبهم ذكريات الأرض التي لم يعودوا يعرفون إن كانت ستُزرع مرّة أخرى.
موضوعات ذات صلّة:
محور ميراج... الخسارة الجديدة لغزة
غزة: من عاصمة الفراولة إلى أرض جرداء
لماذا يفشل المزارعون في إحياء حقولهم؟
هكذا أعادت الحرب الزراعة للعصر الحجري
سحق الفراولة: ضربة قاسمة للزراعة والاقتصاد
"موراغ" أو ممر صوفا.. محور إستراتيجي سيطرت عليه إسرائيل لتقطيع أوصال غزة
الزراعة في غزة